عام 56 نيوز

بحث : متي يثور المصريون

محيط:هل جُبل المصريون على الإستكانة لحكامهم؟ قطعا ستكون الإجابة بـ “لا” بعد اندلاع الثورة المصرية الأخيرة، ولكن الحقيقة أن هذه النظرة كانت مترسخة بالفعل عن المصريين في الماضي، وسعى كتاب حديث صادر عن دار “صرح” لإزالة بعض القناعات المتسرعة من جانب المؤرخين القدامي.

وقد حقق المؤلف د. هشام عبدالعزيز مخطوطة كتبها المؤرخ مصطفى بن محمد نجيب قبل أكثر من 120 عاما أي بعد الثورة العرابية، وقد كان مؤلفها من أقطاب الحركة الوطنية والمؤيدين للخلافة العثمانية. 

في كتاب “خروج المصريين على الخلفاء والسلاطين” يوضح المؤلف أن العرب لم يعرفوا كلمة “ثورة” ولم يستخدموها إلا نادرا ، وقد استبدلوها بمعناها الحالي بكلمة “خروج” أو فتنة أو عصيان وربما تمرد.
وقد اتفق الباحثون حول العالم على أن “الثورة” يصحبها تغيرات فجائية وجذرية وأحياناً عنيفة لحكم قائم وكذلك النظام الاجتماعي والقانوني المصاحب له.

ويعرف بيتير سوروكين “الثورة الشاملة” بأنها ثورات عظيمة الأثر في بلدانها وخارجها، وعلى المستوى السياسي والاجتماعي والثقافي مثل الثورة الفرنسية عام 1789، والثورة الروسية 1917، وقد تقترن ثورة سياسية بثورة اجتماعية ثقافية وقد تحاول الأولى بعد نجاحها تهيئة المناخ للثانية.

الثورة الفرنسية

أما اليساريين من القرن التاسع عشر فيرون أن الثورات أدوات التقدم “الحتمي” نحو مجتمع تسوده الحرية والاستقلال الذاتي والتناغم الاجتماعي والمساواة، وأن الانتفاضات الجماهيرية لا تكون أصيلة إلا عندما تكون موجهة ضد الحكام المستبدين. 

إلا أن البعض نظر للثورة باعتبارها حالة من “الفوضى” فيرى بعض المفكرين من أمثال “نيتشه” و”جوستاف لوبون” أن الثورات مجرد انفجارات شبه بربرية وانفعالات جماهيرية مدمرة خارجة عن السيطرة !!

الحاكم والمحكوم

ينقلنا د. هشام عبدالعزيز في دراسته التمهيدية إلى “الحاكم” هذا اللفظ الذي تردد في الأدبيات السياسية العربية بترادفات كثيرة منها الوالي أو الخليفة وأمير المؤمنين والسلطان والراع وولي الأمر وأخيراً في بداية  القرن العشرين “الرئيس”، وقبل المصطلح الأخير دارت جميع الألقاب السابقة حول “الحكم بالحق الإلهي” وملكية الأرض وما عليها، وقد قطعت الأمة العربية أشواطاً طويلة حتى تنهي هذه الصلة بين الأرض والسماء فيما يتصل بشئون الحكم والدولة إلا أنه لازالت هناك بقايا لهذه الفكرة السابقة.

أما “المحكوم” فيسمى في الأدبيات السياسية العربية بأسماء كثيرة تدور كلها حول الطاعة العمياء لأولي الأمر فيسميهم المعجم السياسي العربي رعية وموالي وعوام وهم الشعب وأحياناً كثيرة الدهماء.

ويرى “سارتر” أن الأحزاب لا الأفراد هي الأقرب لأن تكون ثورية وهي القادرة على اجتذاب أفراد يتمتعون بإمكانية الانخراط في أعمال ثورية، ويلفت إلى أن الشخص المضطهد هو المرشح الأقوى ليكون ثورياً، وأنه لا يعتبر كذلك إلا إذا حصل على مطالبه عن طريق “تحطيم الطبقة التي تضطهده”.

ثورة 1919

الأوضاع السيئة

لا تأتي “ثورة” من فراغ فلابد أن يسبقها “أوضاع سيئة” تدفع بالشعب لإعلان ثورته عليها والتي قد تتمثل في تفشي الفساد أو تردي الأوضاع السياسية وهذا ما يظهر في ثورات العالم كله، أما في منطقتنا العربية فالسبب في قيام الثورات على الحاكم القائم وفقاً للمؤلف تتمثل في وجود شخص آخر يرى في نفسه الكفاءة أكثر في الحكم، في حين لم يأت سوء التدبير وتردي الحالة الاقتصادية كسبب واضح للقيام بثورة في العالم العربي، حيث كانت النخب العربية ترجع دائماً سوء الأحوال الاقتصادية والاجتماعية لأسباب طبيعية خارجة عن إرادة الحاكم مثل الفيضانات أو الجفاف أو ندرة الموارد وغيرها. 

إلا أن بعض المفكرين العرب تنبهوا في العصور الوسطى إلى الفساد السياسي كسبب رئيس من أسباب سوء الأحوال الاجتماعية والاقتصادية ومنهم المقريزي في كتابه “إغاثه الأمة في كشف الغمة” حين صرح بالكثير من الجرأة قائلاً ” أن ما بالناس سوى سوء تدبير الزعماء والحكام، وغفلتهم عن النظر في مصالح العباد”.

وكثير من الأدبيات السياسية ربطت بين الفعل الثوري والعامل الاقتصادي مثال الماركسيين الذين يرون أن السبب المباشر للثورة عندما “لا تستطيع الطبقات الحاكمة ولا تريد الطبقات المقهورة المستغلة أن تعيشا معاً في ظل الشروط القائمة، وهذا التناقض بين الطبقات الاقتصادية هو الذي يفضي إلى ثورة عنيفة”.

الوسطاء يمتنعون

ما بين الحاكم والمحكوم تقع طبقة “الوسطاء” التي لا تدخر جهداً في تنمية مصالحها الشخصية على حساب كلا الطرفين والتي أشار إليها د.عبدالعزيز بأنها طبقة كاملة في الأدبيات السياسية العربية تطورت أحياناً لتكون حاشية وأحياناً صفوة ودائماً خاصة أو نخبة، وهي وفقاً له “دائرة نار” تحوط بالحاكم ولا يستطيع اختراقها المحكوم.

ويؤكد الباحث أن جزءً كبيراً من الكوارث السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي لحقت ولا تزال بالأمة العربية ترجع لهذه النخبة والتي لا تجيد سوى خداع الحاكم والمتاجرة بالمحكوم ( اتضح ذلك جليا في ثورة 25 يناير) .

ويرى الكاتب أن مثقفي الوطن العربي أشبه بالوسطاء “السماسرة” الذين يتحدثون عن المجتمع وهم لا يعرفون عنه شيئا، ويوهمون المؤسسة السياسية دائماً بأنهم الأكثر معرفة بالناس لا لشيء إلا لجني المكاسب وتحصيل العمولات ولا يتورعون كذلك عن الثرثرة عن تضحياتهم في سبيل كلمة الحق، والناس في وسط كل هذا الضجيج يعيشون في واديهم الضيق لا يعرف عنهم حكامهم أو مثقفوهم شيئاً.

أحمد عرابي والخديو والمندوب البريطاني

متى يثور المصريون؟

بعد التعرف على الأركان التي يؤدي الخلل في إحداها لحدوث “الثورة” يطرح الباحث علينا تساؤل هام “متى يثور المصريون؟” فبالرغم من أن تردي الأوضاع يعتبر مرحلة مشتركة بين كل الثورات الإنسانية والتي تخلق حنقاً عاماً، يرى أن المجتمع المصري لا يثور تحت ضغط سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي. 

ويطرح هنا مجموعة من الملاحظات المتصلة بطبيعة الفكر الثوري بمصر والوطن العربي، أولها عن الحاكم حيث تؤثر مكانته الدينية وسماته الأخلاقية في مدى قبول الثورة أو الانقلاب عليه، فكلما اقترب الحاكم أكثر من عباءة الدين كان الخروج عليه أصعب.

وهو ما حدث في حالة ثورة عرابي حيث اعتبر الأخير عاصياً وخرجت صحيفة “الأهرام” في عددها الصادر في التاسع من أغسطس 1882م بخبر يقول “أفادت دار الخلافة الخصوصية أن الحضرة السلطانية قبلت شروط إنجلترا كلها، وتوقع اليوم عليها مع إعلانها أن عرابي عاص”!

ونرى هنا أن الصحيفة لم تشر إلى خضوع الخليفة المخزي إلى جميع أوامر بريطانيا بينما ركزت على أن عرابي عاص، وهكذا اتضح أن العصيان السياسي عرف في أواخر القرن التاسع عشر أنه “خروج” على الحاكم.

كذلك يلفت الباحث إلى أن المصريين أقرب لروح الإضراب والاعتصام عن روح العمل الثوري، ويحتاج العصيان والاضراب إلى رجل قائد يثق المصريون في قدرته على التعبير عن همومهم وإذا لم يتوافر هذا الرجل فإن غضب المصريين مهما كانت أسبابه لن يتعدى اضرابا أو احتجاج ( حدث خلاف ذلك في ثورة يناير 2011 حينما شارك المصريون جميعا دون قائد للثورة بهدف إسقاط النظام الفاسد)  .

أيضاً يشير الباحث إلى أن المصريين لا يثورون لأسباب اقتصادية أصلاً، حيث حملت كتب التاريخ العديد من حالات الجوع والفقر التي عانى منها المصريون بسبب سوء تدبير الحكام بشكل مباشر ومع ذلك لم يثر المصريون ومنها السبع سنوات التي عانوها أثناء الشدة “المستنصرية” والتي لم تكن مجرد حالة اقتصادية متردية بل اشتملت على انعدام الأمن الاجتماعي والفساد السياسي والأوبئة والجفاف ومع ذلك لم يثر المصريين.

إلا أن هذا الشعب هو نفسه الذي أقام ثورة عارمة في كل ربوع مصر عام 1919 اعتراضاُ على نفي سعد زغلول وهو مجرد رجل واحد هم الذين صنعوا زعامته بايديهم !

لذا يمكن القول أن المصريين يثورون في حالة توافر مجموعة من الشروط الموضوعية للثورة بعضها تشترك فيه كل الثروات على وجه الأرض مثل الحنق العام والظلم الذي يشمل جميع طبقات المجتمع، وبعضها يميز الحالة المصرية خاصة.

قادة الثورة

يلفت الباحث إلى أن المصريين تاريخيا كانت طبقة او فئة محددة تفتتح العمل الثوري ثم يتبعها الآخرون، وعادة ما تقود الطبقة الوسطى التغيير بسبب الفساد الذي تعانيه ، ففي الحركة العرابية خلال القرن التاسع عشر، كان الجميع من أبناء مشايخ البلد والعمد والأعيان الذين التحقوا بالمؤسسة العسكرية، أيضاً خلال ثورة 1919 ظهرت طبقة المثقفين الجدد مثل مصطفى كامل وسعد زغلول وغيرهم ممن وثق بهم الشعب المصري، ونفس الحال في ثورة 1952 والتي قام بها مجموعة من أبناء الفلاحين الذين تمكنوا من الالتحاق بالمؤسسة العسكرية.

أيضاً من شروط الهامة التي ذكرها لحدوث أو اكتمال الحركة الثورية في مصر هو تضامن إحدى مؤسسات النظام القائم مع الحركة الثورية وعادة ما تكون مؤسسة الجيش ( نلاحظ أنه في ثورة 2011 ساند الجيش أيضا ثورة المصريين) .

مخطوط نجيب

ينتقل المحقق د.هشام عبدالعزيز في الجزء الثاني من الكتاب إلى مخطوط مصطفى بك بن محمد بن نجيب المصري “خروج المصريين على الخلفاء والسلاطين” والذي تحامل على المصريين شعباً وتاريخاً، ومع التدقيق شعر المؤلف أن هذا النقد الشديد كان نوعا من جلد الذات. 

كان المؤرخ المصري له مكانة ومنصب في الديوان الخديوي وكان من المؤيدين لأفكار مصطفى كامل، ولكنه ناهض الثورة العرابية، وذلك بالطبع بسبب عداء الثورة وقياداتها للسلطان العثماني الذي كان نجيب وكامل يدينان له بالولاء، مع عدم إغفال عمل المؤلف كوكيل لقسم الإدارة الخارجية في الديوان الخديوي.

يعيب المؤرخ في مخطوطه على المصريين إثارتهم للفتن وتركهم للعملاء يشتمون السلطان جهرا بينهم، ولكنه يعود في مقطع آخر للقول بأنهم يستسلمون لحالة الإستكانة والضعف أمام الأجنبي!
ويرجع هشام هذه الحالة من التخبط التي تملكت المؤلف إلى الحالة الضبابية العامة التي خلفتها الثورة العرابية عقب إجهاضها والتي تركت المصريين النخبة منهم والعامة في حالة من انعدام الرؤية السياسية والعجز عن تحديد العدو والصديق بشكل واضح.

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى