طقاطيق

يتيما في الخمسين

يتيما في الخمسين

الحياة والموت1

ماتت عمتي

كانت عمتي تمثل شيئا كبيرا بالنسبة إلي وترقي إلي علاقة الأم بما رأيته منها من اهتمام كبير بي وبشئوني. طبيعي جدا أن أعطيكم فكرة من تكون هذه المرأة التي احدثكم عنها حتي تعرفوا من هي . ماتت والدتها ( جدتي) وهي في سن تقريبا السادسة وكان أخوها (أبي) في سن تقريبا الرابعة وأخوها الثاني (عمي) تقريبا سنة اي في سن الرضاعة ورجل كبير (جدي). فجاءت هذه الطفلة بقرار قاطع لأبيها بأن لا يتزوج غير أمها وهي سترعي الأسرة وحتي أخيها الرضيع. فتعجب جدي من قرارها الصغير وكأنه سيف قاطع فياتري هل هو نابع من الغيرة علي أبيها أم أنها المسئولية المبكرة لديها بأنها ستكون أم وربة منزل لهذا البيت الصغير؟ المهم أن الأب قد وعدها بألا يتزوج من غير أمها وبالفعل أخذت تلك الطفلة علي عاتقها تحمل المسئولية من تعلم الطهي والغسيل حتي أنها كانت تحمل اخيها الرضيع الي نساء ولدن حديثا لترضعه. وسارت الحياه وكبر الأبناء وكبرت المهام مع الفتاة التي عكفت علي تربية ورعاية ابيها وأخويها وبدأ الخطاب يطلبون يدها للزواج إلا أنها كانت ترفض لترعي مهامها بكل حب واخلاص. تزوج أبي من أمي وأنجب سبع أبناء كنت الخامس بينهم فكانت هذه الأعداد في الأبناء لاتزعج المجتمع قديما. ولأن عدد الأبناء كان كبيرا فكان الحمل علي أمي كبيرا فربتني عمتي التي لم تتزوج بعد وآثرت أن تكمل الرسالة مع أخيها . فكانت تعاملنا جميعا بالحسني إلا أنها كانت تخصني برعاية أكبر كإبن لها ولم تبخل علي بشئ حتي أنني كنت اشعر كثيرا بأنني محظظ لأن لي أمان. وكبرت أنا وتزوجت وكبرت عمتي (البنت التي لم تتزوج) ثم رحلت عنا في هدوء بعد صراع مع المرض لتتركني في عاصفة الحرمان من حنانها النادر….

ماتت أمي

كانت أمي نموذج للأم المصرية الأصيلة التي تنسها نفسها من أجل إسعاد أولادها. فكانت تقوم في الصباح الباكر لتشتري لنا الفطور وتجهز لنا الشاى بالحليب قبل الذهاب للمدرسة. بعد رحيل عمتي عوضتني أمي حنانها التائه مني وبالفعل كما قلت سابقا أنني محظوظ لأن لي أمان. كانت أمي علي درجة بسيطة من القراءة والكتابة فكانت تشجعني بأن تمسك الكتاب وتسمع لي ماحفظت ورغم علمي بأنها لم تكن قوية في القراءة إلا أنني كنت حريص علي التسميع بشكل جيد حتي أرضيها. كانت أمي تقرأ في القرآن الكريم بصفة دائمة اولا بتهتهة ثم اتقان شيئا فشيئا الي أن أصبحت قارئة مستديمة لكتاب الله . ومضت أمي واشتد عليها المرض اللعين الي أن صرعها ورحلت في ذمة الله كم أنا مشتاق إليكي يا أمي!!

مات أبي

رجل طيب القلب علي السجية (اللي في قلبه علي لسانه) لم يبخل علينا بأي شئ من مصاريف مدرسية أو فسح في المصايف او زيارات للأقارب في القاهرة والإسكندرية . كبر الأب وكبر حنانه لنا وزادت محبتنا له اولا بحكم أنه أبي ثانيا بحكم السنين التي جمعتني بأبي. عندما فتح الله علي كنت أصطحبه معي ومع بناتي وزوجتي الي الرحلات الصيفية التي كان يعشقها معي حيث كنا نسكن أفضل المساكن والفلل وزور أرقي الشواطئ ونأكل أشهي الطعام من فضل الله تعالي …  كان أبي عنده عزة نفس جميلة تمنعه من أن يطلب شيئا من أي بشر حتي وان كان ابنه .. بدأ صلاته علي كبر ولكنه لم يتركها حتي قرب الوفاة ويعلم الله أنه كان يصلي بعينه علي فراش المرض . اعتاد أبي علي الصحة الجيدة ولم يعتاد علي شكوي الألم ولذلك ساءت حالته النفسية عندما باغته المرض الخبيث الذي بدأ في المثانة ثم استشري في باقي جسده الداخلي .. وعندما مل أبي من المرض فكر أن يصادقه علي عيبه وألمه إلا أن الآخر كان أكثر وحشية من مصادقة هذا الرجل الضعيف الذي أصبح هزيلا شاحبا في صورة لم أعتاد عليها أنا واخوتي.

أمسية وفاة أبي

كنت أسكن خارج منزل العائلة مع أسرتي الصغيرة ولذلك كنت أذهب الي أبي قدر المستطاع وأجلس معه ما تيسر من الوقت ولمن في هذا اليوم كان عندي احساس لم اعلمه إلا بعد الوفاة ذهبت اليه وكان النور مقطوع (حال بلدنا المأسوي) وكان الجو حارا جدا وكان أبي يحتاج الهواء لما في من ألم يهز كل جسده فأمسكت بمخدة كبيرة وظللت أهي بها عليه قرابة الساعة وأنا أتلو ما تيسر من القرآن وكنت أشعر بسعادة غامرة أكاد أتلمسها من داخله هو وأمسكت يده وظللت أقبلها وهو ينظر إلي نظرة أيضا لم أفهمها إلا في اليوم التالي. وكانت الساعة التاسعة والنصف وعلي الذهاب لأشتري طلبات منزلي ولكن قدماي كانتا متسمرتان في الأرض وفي حيرة لا أريد الذهاب ولكن ضروري أن أمارس حيتي اليومية فقبلته وذهبت وهو ينظر الي … ثم في اليوم التالي يأتي تليفون ليوقظني ويخبرني بموت أبي ….

الغسل والقبر

بفضل الله حضرت غسله وكان (ما شاء الله لا قوة إلا بالله) وكأنه قد تعافي من كل ما كان يمرضه ثم صلينا عليه صلاة الجنازة ثم الي المثوي الأخير … وهناك في المقبرة قررت قرارا صعبا وهو أن أنزل معه الي المقبرة لأمهد له قبره وألقنه وأدعوا له . نزلت مستدبرا المقبرة بدون حذاء ونزلت بقدمي أولا وكنت أنا وأبي في ردائه الأبيض ولما فك الدفان أربطة الكفن رأيت وجهه حيث كان مستريحا أن أحدا من أبنائه معه في هذا المكان الموحش ولقنته ودعوت له ثم ودعته …

وبالفعل بدأت اشعر باليتم

Galal Hasanin

Galal Hasanin مؤسس موقع 56 نيوز - أعمل في مجال التربية والتعليم لغة انجليزية - مترجم - اهوي الشعر والانترنت

Related Articles

One Comment

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button