الابادة الجماعية للشعب الأرمني برعاية أتراك الدولة العثمانية
الإبادة الجماعية الأرمينية خطط لها مركزيا وتمّ إدارتها من قبل الحكومة التركية ضدّ كامل السكان الأرمن القاطنين في الإمبراطورية العثمانية. وتمت تلك العمليات خلال الحرب العالمية الأولى بين الأعوام 1915 و 1918. حيث تعرض الشعب الأرميني للترحيل، السرقة، الاختطاف، التعذيب، التذبيح والتجويع. (يحوي الموضوع صوراً مؤلمة قد لا يحتملها البعض).
يقصد بالإبادة الأرمنية عمليات القتل والتدمير المنظم التي مارستها السلطات العثمانية بحق السكان الأرمن في الإمبراطورية أثناء وبعد الحرب العالمية الأولى، حيث تعرض الإرمن خلال تلك العمليات إلى مختلف أنواع التعذيب من ترحيل قسري وتجويع وبطش مع نوع من التعليمات التي كانت تهدف إلى القضاء عليهم خلال الترحيل والتي كانت وجهتها النهائية في الصحراء السورية حيث ينتظرهم الموت جوعا وعطشا.
الوضع السياسي خلال الحرب العالمية الأولى
في 2 أغسطس 1914 أصدرت الحكومة العثمانية قرارًا بالتعبئة العامة، وفي 5 نوفمبر أعلنت الدولة رسميًا وقوفها إلى جانب ألمانيا في الحرب، ثم صدر في 7 نوفمبر فتوى شيخ الإسلام بوجوب الجهاد. كان ما يعرف باسم “الجيش الرابع” العثماني المكون من فيصلين رئيسيين، مرابضًا في دمشق تحت قيادة زكي باشا الحلبي، ولكونه عربيًا ومناهضًا للتحالف مع ألمانيا استدعي إلى الآستانة، وعيّن والي أضنة جمال باشا الملقب “بالسفّاح” حاكمًا عسكريًا ومدنيًا على عموم بلاد الشام وبصلاحيات واسعة، وهو أحد أعضاء حزب الاتحاد والترقي.
في دمشق كان أعضاء جمعية العربية الفتاة وجمعية العهد، يفكرون بالاستقلال التام للبلاد العربية ضمن إطار مملكة تضم بلاد الشام والعراق وشبه الجزيرة العربية، كان ذلك نتيجة التراكمات التاريخية للعلاقات المتوترة بين الجمعيات العربية والسلطات العثمانية عمومًا والاتحاد والترقي على وجه الخصوص، ويقول المؤرخ جوج أنطونيوس أن المجتمع الدمشقي بجميع أطيافه كان مؤيدًا للثورة، بما في ذلك العلماء من أمثال بدر الدين الحسني كبير علماء دمشق.
غير أن الجمعيات السياسية رفضت أي تدخل من جانب بريطانيا أو مساعدة من الحلفاء، وبحثت عن نصير داخلي يتبنى قضيتها فاتصلت بوالي الحجاز الشريف حسين بن علي عن طريق أحد أعضائها المدعو نسيب البكري، حول دعم الشريف الحسين للثورة بما له من مكانة سياسية ودينية بارزة، مقابل توليه عرش المملكة العربية المزمع قيامها.
تردد الحسين في قبول طلب الجمعيات، لكنه أرسل ابنه فيصل إلى دمشق فوصلها يوم 26 مارس 1915 ومكث بها أربع أسابيع قبل أن يغادرها إلى الآستانة وعلى طريق عودته إلى الحجاز استقرّ في دمشق فترة زمنية أخرى اتصل بها بقادة الجمعيات، وعندما عاد إلى مكة في 20 يونيو 1915 وقدّم لوالده تقريرًا حول وضع الدولة العثمانية وإعلان الحرب عليها؛[20] سيستغرق الشريف حسين حوالي عام في دراسة موقفه من الثورة، خلال هذا الوقت كان تسلّط جمال باشا قد بلغ شأنًا عاليًا، فقد شنّ الوالي منذ فبراير 1915 هجومًا هدفه احتلال مصر، ظانًا أن الشعب المصري سيثور ويقف إلى جانبه لكنه فشل في الهجوم ولم يتحرك الشعب المصري تعاطفًا معه؛ ثم أخذ يبعد الفرق العربية من الجيش إلى الأناضول ويحلّ فرقًا تركيّة بدلاً منها ضمانًا لولائها، كما أسس ديوانًا للأحكام العرفية في دمشق وآخر شبيهًا في عاليه وأخذ ينكّل بوجهاء المدن ومثقفيها من العرب عن طريق مجلسي الأحكام العرفيّة، وقد أصدر المجلسان المذكوران عدة أحكام بالنفي والإعدام والسجن مع الأشغال الشاقة على كثير من هؤلاء؛ وأخيرًا خرق جمال باشا النظام الأساسي لمتصرفية جبل لبنان بأن دخل بالجيش العثماني إلى أراضيه ناقضًا استقلاله الذاتي؛ ترافق ذلك مع انتشار المجاعة وغزو أسراب الجراد منذ ربيع 1915، فأتت على المحاصيل وارتفعت أسعار الطعام وفقد من بعض القرى والمدن، فأخذ الشعب يموت جوعًا، وشوهدت جثث الموتى على قوارع الطرق ومات في شمال سوريا وحدها من ستين إلى ثمانين ألفًا بالمجاعة،[20] كذلك فقد انتشر خلال الحرب سياسة قطع الأشجار لتدفئة جنود الجيش العثماني وتسخير العمال في مشاريع عسكرية.
بطش جمال باشا لحق بجميع وجهاء وأعيان الجمعيات العربية في دمشق واعتقل أغلب رموزها من أمثال شكري القوتلي وفارس الخوري وغيرهما، وترافقت الاعتقالات مع التعذيب وقوافل الإعدام،[86] وقد لقّب جمال باشا “بالسفّاح” من حينها. وعندما زار فيصل دمشق للمرة الثالثة في يناير 1916 كان المناخ مؤاتيًا جدًا للثورة ومن جميع الاتجاهات.
كانت بريطانيا عاجزة عن تحقيق نصر حاسم على العثمانيين طوال عام 1915 بل إنها تلقت هزيمة نكراء في معركة غاليبوي، وانسحبت من منطقة المضائق التركية، وكذلك تلقت هزيمة أخرى في الكوت التابعة للعراق في أبريل 1916. دفعت هذه الهزائم بريطانيا عن طريق مفوضها في مصر هنري مكماهون مراسلة الشريف حسين بهدف حضّه على إعلان الثورة على الدولة العثمانية؛ طالب الشريف حسين بدولة عربية برئاسته لكن أجوبة مكماهون كانت غامضة وغير حاسمة، سوى ذلك فإن الإنكليز لم يكونوا يعرفوا شيءًا عن الجمعيات السرية الناشطة في دمشق ما دفعهم لاعتبار الحسين يفاوض بمطامع شخصية، لإقامة دولة عربية يصبح خليفتها.[20] انتهت مراسلات الحسين مكماهون في 30 يناير 1916 ولم يحرك ساكنًا لإطلاق الثورة، ثم أوفدت الحكومة الفرنسية إلى مصر وزير خارجيتها جورج بيكو فوصلها يوم 9 فبراير 1916 وبدأ مفاوضات مع المندوب الجديد في مصر مارك سايكس حول تنفيذ مقررات مؤتمر سان بطرسبرغ، الذي عقده الحلفاء، وقد ولد بنتيجة المفاوضات اتفاق سايكس بيكو يوم 16 مايو 1916، ونصّ على منح سوريا ولبنان وكيليكيا ولواء إسكندرون لفرنسا مقابل دعم الجيش الفرنسي لبريطانيا
الثورة العربية الكبرى وانهيار الدولة العثمانيةفي 6 أيار/مايو 1916 كان جمال باشا قد أقدم على إعدام أربعة عشر رجلاً من وجهاء سورية في بيروت ودمشق فكانت تلك أكبر قافلة للإعدام[88]، وشكّلت محفزًا لفيصل لإعلان الثورة، فتوجّه إلى الحجاز ومن مكة أعلن ثورة العرب على الحكم العثماني يوم 10 حزيران/يونيو 1916 ومعه ألف وخمسمائة جندي وعدد من رجال القبائل المسلّحة، ولم يكن لجيش فيصل مدافع فقدّمت له بريطانيا مدفعين ساهما في تسريع سقوط جدة والطائف وتوجه منها إلى العقبة حيث بدأت المرحلة الثانية من مراحل الثورة رسميًا أواخر عام 1917، مدعومة من الجيش البريطاني الذي احتلّ القدس في 9 ديسمبر 1917 وقبل نهاية العام كانت جميع أراضي سنجق القدس تحت الحكم البريطاني.[89] أما جيش فيصل فكان ينمو باطراد إذ انضم إليه ألفي جندي مع أسلحتهم بقيادة عبد القادر الحسيني قادمين من القدس كما انضم أغلب رجال قبائل تلك الأصقاع إلى الثورة.
اشتكبت القوات العربية مع القوات العثمانية في معركة فاصلة قرب معان وأسفرت المعركة عن شبه إبادة للجيش السابع التركي وكذلك الجيش الثاني، وسقطت معان في 23 سبتمبر 1918 تلتها عمان يوم 25 أيلول/سبتمبر ثم درعا يوم 27 سبتمبر، وقبلها بيوم، أي في 26 سبتمبر كان الوالي العثماني وجنده قد غادروا دمشق إيذانًا بزوال حكم العثمانيين عنها، ودخلت قوات الثورة المدينة يوم 30 سبتمبر، وفي 8 أكتوبر دخل الجيش الإنكليزي إلى بيروت وفي 18 أكتوبر خرج العثمانيون من طرابلس وحمص وفي 26 أكتوبر 1918 دخلت قوات الثورة العربية والحلفاء إلى حلب، وأبرزت هدنة مودروس في 30 أكتوبر 1918، والتي نصت على استسلام جميع القوات العثمانية وقبول الدولة العثمانية تخليها عن بلاد الشام والعراق والحجاز وعسير واليمن نهائيًا.[90]
بعد زوال الحكم العثماني، تشكلت حكومة مؤقتة برئاسة علي رضا الركابي، وفي يونيو 1919 أصبح المؤتمر السوري العام بمثابة برلمان بلاد الشام، وهو ما كرّسه في إعلان استقلال بلاد الشام باسم “المملكة السورية العربية” في 8 مارس 1920، غير أن الحلفاء رفضوا الاعتراف بالدولة التليدة، وفي أبريل 1920 خلال مؤتمر سان ريمو في إيطاليا قرر الحلفاء تقسيم البلاد إلى أربع مناطق تخضع بموجبها سوريا ولبنان للانتداب الفرنسي والأردن وفلسطين للانتداب البريطاني، وإن كان لبنان ومعه الساحل السوري وكذلك فلسطين لم تدخل عسكريًا تحت حكم المملكة نظرًا لكون جيوش الحلفاء فيها منذ نهاية الحرب العالمية، فإن الجيش الفرنسي توّجه نحو دمشق واحتلها في أعقاب معركة ميسلون يوم 24 يوليو 1920، وبذلك دخلت سوريا مرحلة الانتداب الفرنسي عليها.
الإدارة
التقسيم الإداري
عد فتح السلطان سليم الأول لبلاد الشام عام 1516 أبقيت التقسيمات الإدارية كما كانت عليه أيام المماليك مع استبدال لفظ “نيابة” بلفظ “إيالة” ولفظ “نائب” بلفظ “والي” ويلحقه لقب التشريف باشا. اعتبرت بلاد الشام ولاية واحدة مركزها حلب ومقسمة إلى مجموعة من الوحدات الإدارية الأصغر هي السناجق. في عام 1549 تم التقسيم الأول:[91]
إيالة حلب، وتحوي عشر سناجق هي حلب وأضنة ومرعش وعنتاب والبيرة/أورفة وكلس ومعرة النعمان وسلمية وحماة وحمص.
إيالة دمشق، وتحوي ثمانية سناجق هي دمشق وطرابلس الشام وصفد ونابلس والقدس واللجون والسلط وغزة.
في عام 1579 تم تعقيد التقسيم الإداري مع استحداث إيالة جديدة على أراضي كلا الولايتين السابقتين واستحداث سناجق جديدة، فأصبح التقسيم الإداري وفق الشكل التالي:[92]
إيالة حلب، وتحوي خمسة سناجق هي حلب وأضنة ومرعش وعنتاب والبيرة/أورفة.
إيالة طرابلس الشام، تحوي أربعة سناجق هي طرابلس الشام واللاذقية وحماة وحمص.
إيالة دمشق، وتحوي عشرة سناجق هي دمشق وبيروت وعكار وصيدا وصفد ونابلس والقدس وغزة وحوران ومعان.
وفي عام 1568 أنشئت رابعة الإيالات السوريّة وهي إيالة الرقة التي تشمل مناطق الجزيرة الفراتية وبادية الشام بهدف تأمين سيطرة أوسع على البدو، وفي عام 1660 استحدثت خامسة الإيالات وهي إيالة صفد التي سميت فيما بعد إيالة صيدا التي كانت تشمل عكا والجليل وصفد وجبل عامل وجبل لبنان، وقد استحدثت للرقابة على جبل لبنان.
مكث التقسيم إلى خمس ولايات معتمدًا حتى القرن التاسع عشر ففي عام 1861 أنشئ نوع جديد من الإدارة هو المتصرفية. كانت أولى المتصرفيات “متصرفية جبل لبنان”، وفي العام 1874 أصبحت القدس “متصرفية القدس الشريف”. في عام 1877 وخلال فترة “التنظيمات” أعيد تقسيم البلاد إداريًا من جديد، واستبدل لفظ “إيالة” بلفظ “ولاية”، علمًا أن المتصرفيات لا تتبع للوالي بل ترتبط مباشرة بالصدر الأعظم. خلال فترة التنظيمات استبدل لفظ “إيالة” بلفظ “ولاية”، واستمرّ التقسيم منذ 1877 وحتى زوال الدولة عام 1918 وفق الشكل التالي:
ولاية حلب، وقد فصلت عنها ولاية أضنة.
ولاية سوريا، وعاصمتها دمشق وتشمل أيضًا الأردن وفلسطين.
ولاية بيروت، التي شملت مناطق كانت تتبع إيالة صيدا، وامتدت من اللاذقية شمالاً حتى نابلس جنوبًا، دون بعلبك والبقاع التي مكثت خاضعة لولاية دمشق.
متصرفية جبل لبنان، التي استحدثت في أعقاب مجازر 1860.
متصرفية القدس الشريف.
متصرفية الزور، التي ورثت إيالة الرقة، وشملت مناطق واسعة من الجزيرة الفراتية وبادية الشام.[93]
وإلى جانب الولايات والسناجق هناك الدرجة الثالثة من التقسيمات وهي الأقضية على سبيل المثال فإن سنجق اللاذقية كان مقسمًا إلى أربعة أقضية هي اللاذقية وجبلة والحفة وبانياس. هذه التقسميات في المدن كان يقابلها أيضًا تقسيمات إقطاعية وراثية أصغر حجمًا وتديرها في الغالب إما عائلات بعينها أو أوقاف أو فرسان من الإنكشارية أو كبار ضباط الجيش.
الولاة
حسب شهادة المؤرخ فيليب حتي فإن اختيار الباب العالي للولاة لم يكن موفقًا في أغلب الأحيان، وكان الخوف من تمرد الولاة ماثلاً بشكل دائم ما ولّد حالة من عدم الاستقرار، على سبيل المقال تعاقب خلال السنوات السبعة الأولى بعد خروج محمد علي باشا من بلاد الشام ثمانية ولاة على كل من طرابلس وصيدا، وتوالى على دمشق بين عامي 1516 و1700 أي خلال 184 عامًا 133 واليًا، 33 منهم فقط مكثوا في منصبهم ما يفوق السنتين. وبين عامي 1815 و1895 وهو تاريخ صدور آخر قانون ولايات عثماني توالى على دمشق 61 واليًا بمعدل والي كل عام. ولم تكن حلب أحسن حالاً إذ تتالى تسعة ولاية خلال ثلاث سنوات في الفترة ذاتها.[94]
وكان أغلب الولاة من غير السوريين ومن غير العرب، ولذلك فهم لم يملكوا المعلومات ولا الخبرة ولا القدرة الكافية لفهم واقع بلاد الشام المقسمة إثنيًا وطائفيًا وعشائريًا ومناطقيًا، وكذلك فشلوا في إقامة نظام إدارة مركزية قويًا، وكان لصغار الإقطاع على الداوم سيّما في الريف والمدن المتوسطة والصغيرة الكلمة الفصل، وكان في وسع الولاة استخلاص الكثير من إصلاحات إبراهيم باشا في البلاد لكن أيًا من ذلك لم يتحقق.[95]
يضاف إلى ذلك كون ولايات الشام بعيدة نسبيًا عن العاصمة لذلك فإن أراد السلطان التخلّص من أحد سياسييه وإبعاده عن حاضرة الدولة عيّنه واليًا على هذه المناطق كما حصل مع مدحت باشا على سبيل المثال، إلى جانب الرشوة التي كان يدفعها البعض لحاشية السلطان لضمان تزكية اسمهم أمامه، وكانت ولايات الشام بغناها الاقتصادي والبشري فضلاً عن وقوعها على طرق الحج تشكل فرصة سانحة لأمثال هؤلاء.[96] ولا يمكن أن يغفل من فشل الولاة قضية صراع حكام الولايات المتجاورة مع بعضهم البعض والمعارك المسلحة التي كانت تنشأ بين ولاة دمشق وطرابلس وعكا بشكل شبه دائم، وكان من آثار هذه المعارك الداخلية إلى جانب انعدام الأمن زيادة الضرائب الداخلية في الولاية لتمويل جيشها.[96] بكل الأحوال، لا يمكن في الوقت ذاته إغفال تعاقب ولاة مصلحين وذوي آثر سياسية واقتصادية وعمرانية هامة على البلاد، كولاة آل العظم في دمشق وكذلك مدحت باشا وناظم باشا، كما أن الباب العالي حاول حل مشكلة الولاة غير المستقرين، في التنظيمات والأشكال الإدارية اللاحقة، كالمتصرفية والقائممقامية إذ حددت ولاية المتصرف أو القائممقام سلفًا بعشر سنوات
الأمن والقوى العسكرية
المرتزقة
حتى إلغاء السلطان محمود الثاني للإنكشارية واستحداثه جيشًا حديث الطراز، كان الجند العثماني في سوريا مؤلف من 3 أقسام: الإنكشارية السلطانية الذين يرسلهم السلطان من الأستانة ويسمون القبوقول وولائهم للسلطان في الأستانة ويستطيع الوالي استخدامهم وفق صلاحيات معينة؛ طوائف من المرتزقة الذين استوردهم الولاة من الجزائر والمغرب والموصل، أو من الأرناؤوط والبوشناق والأكراد والتركمان وبرز من فرقهم الدلاتية واللاوند والسكمان وولائهم للولاة الذين ينفقون عليهم؛ عناصر محلية تحت زعامات الأعيان المحليين ويسمون اليرلية وولائهم للأعيان المحليين.[97][98] وقد عانت الشام كثيرا من الصراعات المتكررة فيما بين فرق الجنود. إلى جانب جند الولاة، فإن الإقطاع المحلي في الريف، غالبًا ما عمد إلى تأسيس جماعات مسلحة تسليحًا خفيفًا، لصدّ قطاع الطرق أو هجمات البدو، وكذلك لفرض رغبته على فلاحي الإقطاعية، خصوصًا فيما يتعلق بجناية الضرائب.
الجيش العثماني الخامس
حين أسس السلطان محمود الثاني الجيش العثماني عام 1826، قسّمه إلى سبعة أقسام موزعة في جميع أنحاء الدولة وترتبط مباشرة بوزارة الحربية في اسطنبول؛ وكان “الجيش العثماني الخامس” ومقرّه دمشق، الجيش المستقر في الولايات السورية الثلاث، والمتصرفتين، وكذلك ولاية أضنة؛ وقد عرف هذا الجيش أيضًا باسم جيش عربستان، وعدّل اسمه لاحقًا إلى الجيش الرابع.[99][100] اعتبر الجيش العثماني الخامس من الجيوش الهامة في الدولة، وترأسه مشير يتقاضى 125 ليرة ذهبية شهريًا، وتتالى على رئاسته بوشناق، وتتار، وتركمان، وأرناؤوط، ولم يحدث أنّ عيّن مشير من أبناء الولاية سوريًا أو عربيًا باستثناء المشير زكي باشا الحلبي الذي تم استبداله بجمال باشا في بداية الحرب العالمية الأولى؛ واستجلب لتدريب أفراده ضباط ألمان، وهو ما جعله قوي التنظيم والإنضباط؛ في حين تشكل من أربعة فرق مشاة موزعة على ثمانية ألوية، اثنان منها مقرها دمشق والباقي في بيروت ومراكز الألوية الأخرى.[101] وقد أبرق السلطان عبد الحميد الثاني إلى علي باشا والي دمشق مشيدًا “بقتال السوريين وتضحياتهم للدفاع عن الدولة” ويدعوهم لفتح باب التبرع في سبيل الجيش عام 1877، كما أشار السلطان في برقية أخرى أرسلها إلى الوسيط بينه وبين ثيودور هرتزل أن اثنتين من كتائب جيشه اللتين قدمتا من سوريا وفلسطين قد “أبيدتا عن آخر رجل” في معركة بلافنا خلال الحرب ذاتها مع الإمبراطورية الروسية.[102] واعتبر المشير نائبًا للوالي في حال غيابه، إلا أن التنافس بين شاغلي المنصبين لم يهدأ، وغالبًا ما كانت العلاقات سيئة بين المشير ووالي دمشق
الأمن الداخلي
قبل استحداث “الدرك” عام 1864 لم تكن تحوي سوريا قوات شرطة أو أمن داخلي؛ بعد صدور قانون الولايات الإصلاحي في عهد السلطان عبد العزيز استحدثت قوات شرطة، غير أنها مكثت في دمشق والمدن الكبرى، واختفت عن الريف والطرقات بين المدن؛ واستحدث عام 1867 مفشتون عامّون، لهم صلاحيات رؤساء المخافر – أو الكراكونات – لمراقبة الجمارك، والأجانب، وتذاكر السفر، والأسعار، والأوزان، ونظافة المدن، غير أن عدد الشرطة لم يتجاوز في جميع ولاية سوريا 1363 فارس، و1012 من المشاة، وهو ما يفسّر ضعف فعاليتها
«أخد عسكر»
إنّ الجندية الإجبارية في الدولة العثمانية والتي عرفت بقانون “أخد عسكر” الصادر عام 1886 كان لها وقع الكوليرا في نفوس السكان، كما كتب الوالي مدحت باشا.[105] يترتب على التجنيد الإجباري التزام المجنّد لعشرين عامًا، أربعة أعوام فعليّة والباقي في الاحتياط في عهد عبد المجيد الأول، وخمسًا وعشرين عامًا خمسة فعلية والباقي في الاحتياط في عهد عبد الحميد الثاني؛ وتتم القرعة سنويًا على الشباب، في مراكز الولايات كما في مراكز الألوية والأقضية، بأمر من السلطان؛ ورغم فتح باب التطوع فإن التطوع لم يتجاوز 20-80 سنويًا غالبًا بدافع الفقر.[106] وقد عفا القانون العثماني، عن وحيد أمّه، والمتزوج بقاصرة، من أداء الخدمة الإجبارية؛ وسمح للغني بتخفيض مدة خدمته إلى خمسة أشهر داخل الولاية في حال دفع بدل نقدي هو خمسين ليرة ذهبية، وفي بعض المناسبات وصلت قيمة البدل إلى مائتي ليرة ذهبية؛ وبشكل عام كان الشبان يلجؤون لإحداث عيوب دائمة في أجسادهم، أو الزواج بقاصرات، أو الهرب من المدن في موعد القرعة إلى الغوطة أو إلى أقضية ومناطق أخرى هربًا من التجنيد؛[107] وغالبًا ما كان الولاة يرفعون عدد الشبّان المطلوب تجنيده، طمعًا بالضغط على السكان لتحصيل البدل النقدي؛ ومما زاد في تذمّر السكان إرسال المجندين إلى مناطق بعيدة كاليمن أو البلقان، وكانت المطالبة الدائمة أن يقضي الشبّان فترة التجنيد ضمن نطاق الولاية ما لم تكن هناك حالة حرب.[108]
وجنّد من ولايات سوريا الثلاث 250,000 رجل خلال الحرب العالمية الأولى
الاقتصاد
الزراعة والصناعة
كانت معظم الأراضي الزراعية في عهد الدولة العثمانية يعتبر إما ملكًا للإقطاع وإما ملكًا للسلطان وبشكل أقل أهمية ملكًا للأوقاف؛ وقد أهملت مساحات واسعة من الإراضي الصالحة للزراعة بسبب عدم اهتمام الجهات المالكة لها باستثمارها، فتحولت لأراض بور، وخلال القرن الثامن عشر ضعف الاهتمام بالريف فانخفض عدد القرى المأهولة من 3200 قرية إلى 400 عام 1785 ولا شكّ أن انعدام الأمن وهجمات قطاع الطرق لعبت دورًا في ذلك.[110] وحتى ختام العهد العثماني كان نظام الري بدائيًا يعتمد على مياه المطر، ورغم ذلك مكثت الزراعة المورد الرئيسي لثلاثة أرباع السكان؛ ولم تنشط محاولات إصلاحها إلا في عهد إبراهيم باشا إبّان الحكم المصري، والذي وطّد الأمن، ووطّن البدو، وألغى التمايز الطبقي في الحقوق والواجبات بين الإقطاع والفلاحين. وباستثناء بعض السلع الكمالية كالدخّان، والحرير، والقطن، فإن الولايات السورية غالبًا ما كانت تستهلك إنتاجها محليًا ولم تصدر منه شيئًا؛[111] بل دخلها خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، محصولات ما كانت بها قبلاً، كزراعة الموز، وقصب السكر، والقنب؛ كما افتتح مصرف زراعي عثماني عام 1887، رغم محدودية منافعه.[112]
أما الصناعة، فاقتصرت على الصناعات الحرفية اليدوية،[113] وأعمال الحياكة من الصوف والحرير؛ ومع بداية القرن العشرين كان في حمص 5,000 عامل في قطاع المنسوجات وحده، واشتهرت المدينة بالمصانع حتى أسماها القنصل البريطاني “مانشستر السورية”، وكانت عشرين باخرة سنويًا تأتي من فرنسا لنقل تبغ جبال اللاذقية إلى أوروبا والذي اشتهر بجودته، وفتحت فروع لبنوك فرنسية وإنكليزية في سوريا، وكانت البلاد تصدر مختلف أنواع المزروعات والصناعات إلى أوروبا والولايات المتحدة وكانت فرنسا على رأس المستهلكين بنحو ثلث الصادرات؛[114] وباستثناء هذين المجالين فلا صناعة تذكر حتى القرن العشرين، حين افتتحت الدولة أواخر عهدها ثلاث مصانع للإسمنت في حلب ودمشق، ومصنعًا للأثاث الحديث في بيروت، ومصنعان آخران في المدينة نفسها لإنتاج الزيت آليًا، وكذلك الورق.[115]
التجارة
ومنذ 1581 أخذ التجار الإنكليز والفرنسيين يتسابقون على الاستثمار في المدن الكبرى مثل دمشق وحلب على وجه الخصوص، وبحسب تقرير القنصلية البريطانية فإن حلب وحدها اشتملت على ستين تاجرًا إنكليزيًا عام 1622.[116] وبحسب ما ذكر فيليب حتي فإن شهرة حلب التجارية قد بلغت شأنًا مرتفعًا في الغرب وذكرت في أدبيات تلك المرحلة بما فيها شكسبير؛ وقد ذكر أحد مؤرخي الدولة عام 1770 كما نقل حتي أيضًا أن مصلحة الجباية في ولاية حلب لديها من المال ما يكفي لشراء الصدارة العظمى نفسها في العاصمة.[110] وكانت المدينة تعتبر ثالث مدن الدولة أهميةً بعد كل من الآستانة والقاهرة،[116] وقد ساعد نشاط حلب في الاستيراد والتصدير نمو صناعات عديدة على رأسها الحرير في لبنان والقطن في الجزيرة الفراتية والصوف والزيت في فلسطين والتبغ في اللاذقية والذي اعتبر من “أجود دخان عصره”،[117] وما ساهم في انتعاش السوق السورية أيضًا كون أسعارها أقل مقارنة بأسعار التجار البرتغاليين الذين كانوا يديرون شؤون التجارة عبر المحيطات الجنوبية حينها، وهو ما ساهم في عودة موقع سوريا التجاري بين الشرق والغرب.[110] ويلاحظ بشكل خاص في سوريا العثمانية ازدهار “الخانات”، وهي بناء مربع من طابقين في وسطة ساحة مكشوفة يستخدم في ادلور الأسفل مستودات للبضائع وفي الدور الأعلى كفندق للتجار.
عاد الازدهار مجددًا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، سيّما مع مشروع سكة الجديد الذي يربط الآستانة بحلب ومنها نحو بعداد والذي اعتبر “قناة السويس السورية” لنقل البضائع وتيسير مرورها على طريق حلب التي منها انطلق أيضًا الخط الحديدي الحجازي نحو دمشق والحجاز وبالتالي جلبت “قناة السويس السورية” هذه ازدهارًا لموانئ البلاد في طرابلس وإسكندرون وبيروت، وتحولت سوريا وحلب على وجه التحديد إلى “السوق الرئيسية للشرق الأدنى كافة” وأنشأت نقابات للتجار والعمال بعضها أجنبي كنقابة تجار البندقية؛[118]
الضرائب
بلغ عدد الضرائب التي يدفعها الفرد في الدولة العثمانية قبل عهد التنظيمات وبعده سبعًا وتسعين ضريبة؛ ومن المعلوم أنه خلال قرن واحد بين 1582 و1681 كانت الضرائب قد ارتفعت على الأفراد مقدار ثلاثة عشر ضعفًا؛[119] وبحسب النظام المعمول به يعود لكل والي في مركز ولايته فرض وجمع الضرائب بحيث ترسل سنويًا مبالغ منها إلى السلطان في إسطنبول، والقسم الثاني ينفق على الجيش العثماني المرابط في حدود الولاية، والقسم الثالث على نفقات الولاية، وغالبًا ما احتملت ولاية دمشق قسمًا رابعًا هو نفقات تجهيز موكب الحج.[120] الضريبة السنوية المرسلة إلى إسطنبول بلغت قيمتها في بداية العهد العثماني مليون إقجة، وانخفضت عبر القرون، مع تدهور الاقتصاد السوري وعدم تمكنه من تحصيل مثل هذه المبالغ. منح الوالي صلاحية فرض الضرائب دفع إلى «تفنن الولاة» في فرض الضرائب لتغطية نفقات الولاية المختلفة: ضريبة العيد، ضريبة قدوم الوالي الجديد، ضريبة العزوبة، ضريبة الزواج، ضريبة الولادات، الضريبة على شجرة الزيتون، الضريبة على ثمرة الزيتون، الضريبة على الأرض، الضريبة على العقار، الضريبة على سقف العقار، الضريبة على أبواب العقار، وهكذا دواليك.[121] إلى جانب ذلك، كانت تفرض الرسوم الجمركية بين الولايات، أي أن نقل المنتجات من حلب إلى دمشق، كان يستلزم دفع 20% من القيمة كرسوم جمركية؛ بينما كانت الوارادت من أوروبا ذات رسم جمركي بنسبة 4% فقط.
جمع الضرائب كان يتم عبر مفارز عسكرية؛ ولفترة طويلة بطريقة التلزيم، التي تنصّ على أن يتولى الأثرياء دفع مجموع الضريبة على مدينة أو منطقة معينة سلفًا، ثم يقوم بإستيفائها من عموم الأفراد المكلفين بالضريبة، مع هامش من الربح يقرره هو بذاته، وبذلك تحولت الضرائب العثمانية إلى سلعة مع ربح فاحش؛ أما سبب استعمال طريقة التلزيم فيعود لحاجة الدولة للنقود في مواعيدها أو سلفًا عن ميعادها، بينما عملية التحصيل تستغرق زمنًا طويلاً.[122] حتى 1871 لم يكن هناك من نظام محدد لنفقات الولاية أو طريقة صرف أموالها.
موكب الحج
منح السلطان والي دمشق منصب «أمير الحج»، وهو ما لم يكن يعني فقط قيادة الوالي لقافلة الحجيج المتجمعة في دمشق، بل أيضًا إشراف الولاية على تجهيز القافلة بما يلزمها؛ وهو ما كان يكلّف ثلث واردات ولايتي دمشق وصيدا، إذ لضخامة المبلغ كلّفت ولاية صيدا بأداء جزء من التكاليف. معظم التكاليف، كانت تتعلق بأمن القافلة، لاسيّما دفع الأموال للقبائل التي تصادفها في طريقها؛ وغالبًا ما كانت بعض كبريات القبائل التي اعتبرت «دون دين» تنهب القافلة ما لم يتم دفع أتاوة عليها.[123] في أواخر القرن التاسع عشر، فصلت الدولة بين واجبات والي دمشق بتجهيز قوافل الحج، وبين منصب أمير الحج، نظرًا لانفلات الوضع في قرى دمشق مع غياب الوالي السنوي؛ بموجب النظام الجديد بات السلطان يعيّن سنويًا أحد أفراد أسرته بوصفه أميرًا للحج، وهو ما زاد من نفقات الحج 4300 كيس إضافي، تدفعها ولاية دمشق راتبًا للباشا أمير الحج.[124]
الثقافة
يدعم العثمانيون الثقافة خلال فترة حكمهم لسوريا، فلا يذكر التاريخ شاعرًا أو أديبًا أو عالمًا أو جغرافيًا سوريًا خلال الفترة الممتدة من القرن السادس عشر وحتى القرن التاسع عشر، ولذلك فهو برأي البعض عصر “جمود وعقم”.[125] يستثنى من ذلك عدد من العلماء الذين نبغوا في العاصمة أمثال المؤرخ أحمد بن سنان القرماني الدمشقي المتوفي عام 1610 ونجم الدين المحدّث المتوفي عام 1651 ومحمد القرني التلمساني المتوفي عام 1632 والذي وضع “تاريخ الأندلس الأدبي”، ومن الأعلام البازرة خلال تلك الفترة أيضًا عبد الغني النابلسي المتوفي عام 1731 وهو فيلسوف وعالم صوفي، إلى جانب بعض رجال الدين أمثال الفقيه إبراهيم الحلبي المتوفي عام 1594 والذي ألّف كتابًا بالفقه الحنفي هو «ملتقى الأبحر» غدا مصدر التشريع والقضاء في الدولة قاطبة حتى صدور “مجلة الأحكام العدلية”.[126]
في النصف الثاني من القرن التاسع عشر انطلقت “النهضة العربية” وكان أحد جناحيها في سوريا ولبنان بينما الآخر في مصر، ولم تكن النهضة بتشجيع عثماني بقدر ما كانت نتيجة إصلاحات إبراهيم باشا وعوامل عدة منها منع التمييز بين المواطنين وانتشار الجامعات والمدارس الأجنبية والوطنية وتحسّن الاتقصاد، وقد برز خلال النهضة عدد وافر من الشعراء والأدباء في الوطن كما في المهجر، إلى جانب نشوء الجمعيات السياسيّة التي تقابل الأحزاب حاليًا، ومن منظري السياسة في تلك المرحلة عبد الرحمن الكواكبي وساطع الحصري. أما على صعيد الصحافة وهي بدورها كانت غائبة عن الدولة حتى 1831 وعن اللغة العربية حتى عام 1855 حين قام رزق الله حسون الحلبي في إسطنبول بإنشاء أول صحيفة عربية أسماها «مرآة الأحوال» لتكون من الثمار المبكرة للنهضة، تلتها صحيفة «السلطنة» عام 1857، وأما أول صحيفة تصدر في سوريا فهي «حديقة الأخبار» عام 1858 من بيروت وقد أنشأها خليل الخوري تلتها «نفير سوريا» عام 1860 على يد بطرس البستاني و«الجنائن» عام 1871، ومن بعدها تكاثرت الصحف وانتشرت أيضًا الصحف ذات الانتشار المحلي على مستوى المدن، كما انتقل عدد من الصحفيين إلى مصر التي كانت تنعم بجو من الحرية في عهد الخديوي إسماعيل وأسسوا فيها صحفًا ودوريات أدبيّة.[127]
وكالصحافة كذلك المكتبات، لم تكن البلاد تحوي من المكتبات شيءًا سوى ما تحويه مكتبات المساجد الكبرى، وخلال النهضة أعيد افتتاح وتنظيم بعض المكتبات السابقة كالمكتبة الظاهرية في دمشق عام 1880 والتي أصبحت “دار الكتب الوطنية”، وتأسست المكتبة الشرقية في بيروت عام 1880.[128] وعدد من المكتبات الأخرى الأصغر حجمًا في سائر المدنن ويعود للفترة ذاتها نشأة المسرح السوري على يد أبو خليل القباني.[129]
أما اللغة، فقد بقيت اللغة العربية هي اللغة الواسعة الانتشار والفهم في البلاد خلال العصر العثماني، ولم تفلح سياسة جمعية الاتحاد والترقي بدءًا من أواخر القرن التاسع عشر إحلال التركية مكانها، رغم كون التركية وطوال العهد العثماني اللغة الرسمية في دوائر الدولة رغم مطالبة الجمعيات السياسية والثقافية العربية الاعتراف باللغات المحلية في الولايات. يذكر فيما يخصّ اللغة أن عددًا وافرًا من المصطلحات التركية قد دخلت اللهجة السورية خصوصًا تلك المتصلة بالسياسة أو الجيش أو الطعام،[130] مثل طبنجة للإشارة إلى البندقية، وكراكون للإشارة إلى مخفر الشرطة وكزلك للإشارة إلى النظارات، إلى جانب استخدام اللازمة جي من اللغة التركية وإضافتها للصفات بحيث تصبح موصوفًا أي مثلاً مشكلجي للإشارة إلى الأشخاص الكثيرو المشاكل وخضرجي لبائع الخضار، وبحسب بحث أجري العام 1929 فإن لهجة أهل دمشق تحوي نحو 600 لفظة تركية؛[131] إلى جانب الألقاب التركية مثل باشا وآغا وخواجا، وبشكل عام فإن اللغة التركية تعتبر ثاني لغة اقتبست منها اللهجة الشامية بعد اللغة السريانية؛[132] أما المطبخ السوري تأثره بدوره بالمطبح التركي سيّما المأكولات الحلبيّة وتشمل قائمة المأكولات المنتشرة في سوريا عدة أصناف من الأطعمة ذات المنشأ التركي كالشاورما والشيش طاووق والشيش برك وسواها. يعتبر الحكواتي الذي يقصّ السير على مستعمين في القهوة من عناصر الثقافة السورية خلال العصر العثماني إلى جانب عدة آثار أخرى في المجتمع كاستعمال الطربوش.
التعليم
كان المسجد حتى القرن التاسع عشر يشكل حلقة التعليم الأولى والوحيدة في الدولة ويتم بها تلقين الكتابة والقراءة ومبادئ الرياضيات، ولدى المسيحيين كان الأمر مشابهًا في الكنائس، وفي المدن الكبرى مدراس البعثات التبشيرية والرهبنات.[134] وبحسب شهادة الشيخ طاهر الجزائري الذي عاصر تلك الفترة فإنه كان يندر أن تجد في الحي إلا أفرادًا قلائل يجيدون القراءة والكتابة بشكل جيد، أو مواطنًا قرأ كتابًا واحدًا في حياته.[134] وظلت سوريا لا تحوي أي مدرسة حكومية أو جامعة حتى قدوم إبراهيم باشا وعنايته بتأسيس ثلاث مدراس في دمشق وأنطاكية وحلب كانت تخرج ستمائة طالب سنويًا وعدد أكبر من المدارس الابتدائية للذكور والإناث في المدن الصغيرة والمتوسطة، وكان مدحت باشا أول الولاة العثمانيين الذين اهتموا ببناء المدارس فأسس في ولايته سبع مدارس ابتدائية ومدرسة للأيتام وأخرى عسكرية ورابعة ثانوية بين عامي 1878 و1880. خلال الفترة السابقة لمدحت باشا واللاحقة لابراهيم باشا أي بين 1840 و1880 افتتح عدد كبير من المدارس والمعاهد والجامعات ولكنها كانت تابعة للبعثات والقنصليات الأوروبية وانحصر تأثيرها في علية القوم وطبقتهم الغنية، وقد دعا بعض المفكرين أمثال بطرس البستاني إلى أهمية تأسيس مدارس وطنية غير أوروبية وافتتح بنفسه عددًا منها أواسط القرن التاسع عشر، ويعود للفترة ذاتها تأسيس أول جامعتين في سوريا هما الكلية السورية الإنجيلية عام 1866 والتي أصبحت لاحقًا “الجامعة الأمريكية في بيروت”، وجامعة القديس يوسف عام 1874، وكان نواة تأسيس جامعة دمشق باسم “الجامعة السورية” عام 1903 وأصبحت جامعة رسميًا عام 1913.[135] ولم يلغ دور المسجد نهائيًا إلا مع تطور وانتشار المدارس في كافة أنحاء دمشق، وقد بلغ عدد مدارس المدينة أواخر القرن التاسع عشر 103 مدارس منها 19 مدرسة مختلطة و16 مدرسة للإناث و68 مدرسة للذكور.[136
الدين
كفلت الدولة الحرية الدينية نظريًا وفق «نظام الملل»، ومع ختام العهد العثماني كان ما بين 25 و 30% من السكان مسيحيين وما بين 70 و 75% من مسلمين عمادهم الرئيس السنّة وهم الأغلبية يليهم العلويون والإسماعيليون والدروز، وأقلية أخرى من الشيعة الاثني عشرية رغم أن هذه المجتمعات الدينية لم تعتبرها الدولة مسلمة. وجد أيضًا عدد وافر من اليهود سيّما في دمشق وحلب والقامشلي.
غير أنّ «نظام الملل» وجده المؤرخين أداة لتقسيم الدولة على نحو طائفي، وازدياد التكتل المذهبي فيها خاصة مع حصر علاقة الدولة مع مواطنيها غير المسلمين عن طريق طوائفهم الدينية.[137] ويرى المؤرخ ألبرت حوراني، أن كون رؤساء الطوائف المختلفين بعد تثبيتهم من قبل السلطان تغدو لقراراتهم صفة القانون النافذ، في الشؤون الدينية والمدنيّة أيضًا أحد أبرز سلبيات هذا النظام؛ رغم ذلك فإن كارل بروكلمان اعتبر أن الدولة “كانت تعيش أجمل أيامها في النصف الأول من القرن السادس عشر، كملجأ للسلام الديني بين مختلف الجماعات، بوجه أوروبا المضطهدة”. أعطى العثمانيون للموارنة امتيازًا ميزهم عن سائر الطوائف المسيحية، وهو عدم وجوب طلب البطريرك والمطارنة الفرمان من الباب العالي، كي تعترف الحكومة بسلطتهم على رعاياهم.[138]
أما طبقة المشايخ، كانت تتمتع بسلسلة امتيازات خاصة تشبه ما للإقطاعيين في النظام الاقتصادي، فهم ذوي استقلال داخلي، ولهم رواتب من وزارة الأوقاف الإسلامية التي تعينهم وتنقلهم وتعفيهم وفق مصالحها، كذلك فهم معفيون من الضرائب. وكان للأساقفة والكهنة والحاخامين بضع امتيازات شبيهة. أما القضاء فكان منحصرًا بيد الطبقة الدينية كل حسب دينه، ولم تأخذ المحاكم التجارية والجزائيّة بالظهور إلا مع القرن التاسع عشر وإصلاح الدولة.[139]
المساواة بين المواطنين
حتى 1831 لم يكن هناك مساواة بين المواطنين، وكان محمد علي أول من أدخل قضية المساواة في الحقوق والواجبات بين المواطنين وعادت الدولة عبر خط كلخانة بتبنيها عام 1839، وأعادت التأكيد على ذلك في الخط الهمايوني عام 1856؛ بكل الأحوال فإن الوظائف الإدارية والقضائية ظلت شبه محصورة بالمسلمين السنّة، واستمرت حماية الدول الأوروبية للمسيحيين، كما أن المساواة لم تشمل فعليًا مجال الخدمة العسكرية والانخراط في الجيش، إذ استمرّ غير السنّة بدفع بدل نقدي، يبلغ مجيديين سنويًا أي خمسي الليرة العثمانية الذهبية عن كل ذكر بين السادسة عشر والسبعين ثم عدلت لتصبح بين العشرين والأربعين.[140] أما أبرز ما سقط فهو الجزية، ومنع تعييرات المسيحيين واليهود،[141] وفي عام 1841 أصدر الباب العالي فرمانًا آخر يقضي بتجريم التمييز بين السوريين على اختلافهم.[139]
عدم المساواة، تمثلت بالتقييدات التي وضعها النظام على بناء وترميم المؤسسات الدينية، وسلسلة إجراءات تمييزية كالإجبار على لبس ثياب قاتمة أو المنع من السير وسط الطريق، أو استخدام ألفاظ شائنة، وغيرها من الإجراءات المنسوبة إلى عمر بن عبد العزيز، وإن كان بعض الباحثين قد أعادها إلى المتوكل على الله في القرن التاسع.[142] وأيًا كان، فإن هذه الإجراءات قد دفعت المسيحيين إلى التقوقع في أحياء خاصة كباب توما وباب شرقي في دمشق والحميدية في حمص وأدت أيضًا إلى انعزال مدن صغيرة مسيحية كصيدنايا وصافيتا وزحلة في الريف.
الامتيازات الأوروبية للمسيحيين
نتيجة غياب المساواة بين المواطنين، أبرمت تفاهمات بين الدول الأوروبية والدولة العثمانية، منذ القرن السابع عشر، تقوم من خلاله الدول الأوروبية برعاية مصالح وحماية مسيحيي سوريا، وقد باتت أوروبا تعتبر هذه الامتيازات “حقوقًا لها”، فحمت فرنسا والنمسا الكاثوليك والإمبراطورية الروسية الأرثوذكس، وبريطانيا الجماعات البروتستانتية الصغيرة؛ وكانت الامتيازات تشمل تسهيلات في السفر، والتقاضي أمام محاكم خاصة، والتعليم، والإعفاء من الضرائب في قطاعات بعينها، وتعيين قناصل أو تراجم أو موظفين قنصليين في البلاد.[143]
المجتمع
كان عدد سكان سوريا حين سيطر عليها العثمانيون نحو مليون نسمة، ومع بداية القرن العشرين كان العدد نحو ثلاثة ملايين ونصف، لعلّ إحدى أبرز مميزات العهد العثماني سيّما في القرن التاسع عشر تمثل بتوطين البدو في قرى جاهزة أقيمت في ريف دمشق وحول حمص وحلب بل وفي مناطق أخرى على نهر الفرات نشأت مدن جديدة بحد ذاتها. فمنبج القديمة التي تعود بتاريخها للعصر الحثي كانت قد هُجرت وخُرّبت أيام المماليك، وقد قدمها عبد الحميد الثاني للبدو والشركس المهاجرين عام 1873، وخلال السنوات اللاحقة لفت موقعها التجاري وتربتها الخصبة مزيدًا من المواطنين فاستقرت بها عشائر كردية ووافدين من حلب، ورمم مسجدها الذي يعود لأيام نور الدين زنكي عام 1880؛ واتبعت المنطقة للأملاك السلطانية المباشرة والخاصة واستمرت في ذلك حتى عام 1908 وهو عام خلع عبد الحميد.[144] كذلك حال المدينتين التاريخيتين في قرقيسيا والرحبة، حيث تم توطين جزء من عشائر العقيدات في المدينتين ما أدى إلى انتعاشهما،[145] وفي دير الزور تأسست المدينة بشكلها الحديث عام 1830 ومنح أهلها سلاحًا للدفاع عنها من هجمات العشائر كحال عشيرة أبو سرايا التي كانت تغير بين الفنية والأخرى على المدينة بهدف السيطرة عليها، وفي عام 1868 أصبح الدير متصرفية خاصة، فسعى المتصرفون لتشييد المباني الحجرية وشق الطرقات والعناية بالزراعة وإدخال الزي الأوروبي والعادات الحضرية، فانتعش عدد سكانها من نحو ألف إلى نحو تسعة آلاف بداية القرن العشرين، وهم عائلات وبطون من قبائل شمر والبقارة وحرب.[146] وقد أدى ازدهار دير الزور أواخر العهد العثماني لازدهار عدد من البلدات والقرى المجاورة كالميادين والبوكمال، من قبائل تلك النواحي.
العامل الثاني في ديموغرافيا سوريا خلال تلك المرحلة تمثل بقدوم آلاف الشركس للعيش في سوريا بعد الحرب الروسية العثمانية عام 1877،[147] أيضًا فإن الأرمن بعد المذابح الأرمنية والسريان في أعقاب المذابح الآشورية قد وفدوا من الأناضول والعراق إلى سوريا، وبينما استقر الأرمن على وجه الخصوص في حلب ودمشق وحمص وكسب، فإن الجزيرة الفراتية – محافظة الحسكة حاليًا – وحمص، كانت الجاذب الأكبر للآشوريين.[147] يذكر في هذا الخصوص أنّ دير الزور كانت إحدى الأماكن التي هُجّر إليها الأرمن قسرًا من الأناضول بأعداد كبيرة، وقد لاقى العديد من الأرمن حتفهم فيها.[148][149] علمًا أن موجة الهجرة الآشورية تكررت في أعقاب مذبحة سميل عام 1933.
أيضًا فإن الهجرة من سوريا نحو العالم الجديد سيّما نحو الولايات المتحدة والبرازيل قد بدأ في أعقاب النصف الثاني من القرن التاسع عشر؛ نشطت الهجرة في أوساط الريف والمدينة على حد سواء، وكان جور الإقطاع المحلي والضرائب الباهظة والتجنيد الإجباري وسياسة التتريك التي انتهجتها جمعية الاتحاد والترقي فضلاً عن الامتيازات الأوروبية على رأس عوامل الهجرة، التي تحولت إلى ما يشبه الظاهرة، ونشأت جمعيات أدبية واجتماعية في المهجر تنادي بحقوق المغتربين،[150] كما ارتبطت بالذاكرة الشعبيّة عن طريق مجموعة من الأغاني والزجليات.
مذابح الأرمن
تعرض الارمن في عهد الدولة العثمانية إلى عدة مجازر لعل أهمها المجازر الحميدية ومجزرة أضنة ومذابح الأرمن خلال الحرب العالمية الأولى حيث راح ضحيتها ما بين 500 الف وثلاثة ملايين ارمني.[16]
يوم 24 نيسان في عام 1915 فيه تم اعتقال أكثر من 250 من أعيان الأرمن في إسطنبول.[17][18] وبعد ذلك، طرد الجيش العثماني الأرمن من ديارهم، وأجبرهم على المسير لمئات الأميال إلى الصحراء من ما هو الآن سوريا، وتم حرمانهم من الغذاء والماء، المجازر كانت عشوائية وتم مقتل العديد بغض النظر عن العمر أو الجنس، وتم اغتصاب والاعتداء الجنسي على العديد من النساء.[19] اليوم أغلبية مجتمعات الشتات الارمني نتيجة الإبادة الجماعية.
قامت الدولة العثمانية في قتل متعمد والمنهجي للسكان الأرمن خلال وبعد الحرب العالمية الأولى،[20] وقد تم تنفيذ ذلك من خلال المجازر وعمليات الترحيل، والترحيل القسري وهي عبارة عن مسيرات في ظل ظروف قاسية مصممة لتؤدي إلى وفاة المبعدين. يقدّر الباحثين ان اعداد الضحايا الأرمن تتراوح ما بين 1 مليون و1.5 مليون نسمة.[21][22][23][24][25]. مجموعات عرقية مسيحية أخرى تم مهاجمتها وقتلها من قبل الإمبراطورية العثمانية خلال هذه الفترة كالسريان والكلدان والآشوريين واليونانيين وغيرهم، يرى عدد من الباحثين ان هذه الأحداث، تعتبر جزء من نفس سياسية الإبادة التي انتهجتها الإمبراطورية العثمانية ضد الطوائف المسيحية.
الوضع السياسي خلال الحرب العالمية الأولى
في 2 أغسطس 1914 أصدرت الحكومة العثمانية قرارًا بالتعبئة العامة، وفي 5 نوفمبر أعلنت الدولة رسميًا وقوفها إلى جانب ألمانيا في الحرب، ثم صدر في 7 نوفمبر فتوى شيخ الإسلام بوجوب الجهاد. كان ما يعرف باسم “الجيش الرابع” العثماني المكون من فيصلين رئيسيين، مرابضًا في دمشق تحت قيادة زكي باشا الحلبي، ولكونه عربيًا ومناهضًا للتحالف مع ألمانيا استدعي إلى الآستانة، وعيّن والي أضنة جمال باشا الملقب “بالسفّاح” حاكمًا عسكريًا ومدنيًا على عموم بلاد الشام وبصلاحيات واسعة، وهو أحد أعضاء حزب الاتحاد والترقي.
في دمشق كان أعضاء جمعية العربية الفتاة وجمعية العهد، يفكرون بالاستقلال التام للبلاد العربية ضمن إطار مملكة تضم بلاد الشام والعراق وشبه الجزيرة العربية، كان ذلك نتيجة التراكمات التاريخية للعلاقات المتوترة بين الجمعيات العربية والسلطات العثمانية عمومًا والاتحاد والترقي على وجه الخصوص، ويقول المؤرخ جوج أنطونيوس أن المجتمع الدمشقي بجميع أطيافه كان مؤيدًا للثورة، بما في ذلك العلماء من أمثال بدر الدين الحسني كبير علماء دمشق.
غير أن الجمعيات السياسية رفضت أي تدخل من جانب بريطانيا أو مساعدة من الحلفاء، وبحثت عن نصير داخلي يتبنى قضيتها فاتصلت بوالي الحجاز الشريف حسين بن علي عن طريق أحد أعضائها المدعو نسيب البكري، حول دعم الشريف الحسين للثورة بما له من مكانة سياسية ودينية بارزة، مقابل توليه عرش المملكة العربية المزمع قيامها.
تردد الحسين في قبول طلب الجمعيات، لكنه أرسل ابنه فيصل إلى دمشق فوصلها يوم 26 مارس 1915 ومكث بها أربع أسابيع قبل أن يغادرها إلى الآستانة وعلى طريق عودته إلى الحجاز استقرّ في دمشق فترة زمنية أخرى اتصل بها بقادة الجمعيات، وعندما عاد إلى مكة في 20 يونيو 1915 وقدّم لوالده تقريرًا حول وضع الدولة العثمانية وإعلان الحرب عليها؛[20] سيستغرق الشريف حسين حوالي عام في دراسة موقفه من الثورة، خلال هذا الوقت كان تسلّط جمال باشا قد بلغ شأنًا عاليًا، فقد شنّ الوالي منذ فبراير 1915 هجومًا هدفه احتلال مصر، ظانًا أن الشعب المصري سيثور ويقف إلى جانبه لكنه فشل في الهجوم ولم يتحرك الشعب المصري تعاطفًا معه؛ ثم أخذ يبعد الفرق العربية من الجيش إلى الأناضول ويحلّ فرقًا تركيّة بدلاً منها ضمانًا لولائها، كما أسس ديوانًا للأحكام العرفية في دمشق وآخر شبيهًا في عاليه وأخذ ينكّل بوجهاء المدن ومثقفيها من العرب عن طريق مجلسي الأحكام العرفيّة، وقد أصدر المجلسان المذكوران عدة أحكام بالنفي والإعدام والسجن مع الأشغال الشاقة على كثير من هؤلاء؛ وأخيرًا خرق جمال باشا النظام الأساسي لمتصرفية جبل لبنان بأن دخل بالجيش العثماني إلى أراضيه ناقضًا استقلاله الذاتي؛ ترافق ذلك مع انتشار المجاعة وغزو أسراب الجراد منذ ربيع 1915، فأتت على المحاصيل وارتفعت أسعار الطعام وفقد من بعض القرى والمدن، فأخذ الشعب يموت جوعًا، وشوهدت جثث الموتى على قوارع الطرق ومات في شمال سوريا وحدها من ستين إلى ثمانين ألفًا بالمجاعة،[20] كذلك فقد انتشر خلال الحرب سياسة قطع الأشجار لتدفئة جنود الجيش العثماني وتسخير العمال في مشاريع عسكرية.
بطش جمال باشا لحق بجميع وجهاء وأعيان الجمعيات العربية في دمشق واعتقل أغلب رموزها من أمثال شكري القوتلي وفارس الخوري وغيرهما، وترافقت الاعتقالات مع التعذيب وقوافل الإعدام،[86] وقد لقّب جمال باشا “بالسفّاح” من حينها. وعندما زار فيصل دمشق للمرة الثالثة في يناير 1916 كان المناخ مؤاتيًا جدًا للثورة ومن جميع الاتجاهات.
كانت بريطانيا عاجزة عن تحقيق نصر حاسم على العثمانيين طوال عام 1915 بل إنها تلقت هزيمة نكراء في معركة غاليبوي، وانسحبت من منطقة المضائق التركية، وكذلك تلقت هزيمة أخرى في الكوت التابعة للعراق في أبريل 1916. دفعت هذه الهزائم بريطانيا عن طريق مفوضها في مصر هنري مكماهون مراسلة الشريف حسين بهدف حضّه على إعلان الثورة على الدولة العثمانية؛ طالب الشريف حسين بدولة عربية برئاسته لكن أجوبة مكماهون كانت غامضة وغير حاسمة، سوى ذلك فإن الإنكليز لم يكونوا يعرفوا شيءًا عن الجمعيات السرية الناشطة في دمشق ما دفعهم لاعتبار الحسين يفاوض بمطامع شخصية، لإقامة دولة عربية يصبح خليفتها.[20] انتهت مراسلات الحسين مكماهون في 30 يناير 1916 ولم يحرك ساكنًا لإطلاق الثورة، ثم أوفدت الحكومة الفرنسية إلى مصر وزير خارجيتها جورج بيكو فوصلها يوم 9 فبراير 1916 وبدأ مفاوضات مع المندوب الجديد في مصر مارك سايكس حول تنفيذ مقررات مؤتمر سان بطرسبرغ، الذي عقده الحلفاء، وقد ولد بنتيجة المفاوضات اتفاق سايكس بيكو يوم 16 مايو 1916، ونصّ على منح سوريا ولبنان وكيليكيا ولواء إسكندرون لفرنسا مقابل دعم الجيش الفرنسي لبريطانيا
الثورة العربية الكبرى وانهيار الدولة العثمانيةفي 6 أيار/مايو 1916 كان جمال باشا قد أقدم على إعدام أربعة عشر رجلاً من وجهاء سورية في بيروت ودمشق فكانت تلك أكبر قافلة للإعدام[88]، وشكّلت محفزًا لفيصل لإعلان الثورة، فتوجّه إلى الحجاز ومن مكة أعلن ثورة العرب على الحكم العثماني يوم 10 حزيران/يونيو 1916 ومعه ألف وخمسمائة جندي وعدد من رجال القبائل المسلّحة، ولم يكن لجيش فيصل مدافع فقدّمت له بريطانيا مدفعين ساهما في تسريع سقوط جدة والطائف وتوجه منها إلى العقبة حيث بدأت المرحلة الثانية من مراحل الثورة رسميًا أواخر عام 1917، مدعومة من الجيش البريطاني الذي احتلّ القدس في 9 ديسمبر 1917 وقبل نهاية العام كانت جميع أراضي سنجق القدس تحت الحكم البريطاني.[89] أما جيش فيصل فكان ينمو باطراد إذ انضم إليه ألفي جندي مع أسلحتهم بقيادة عبد القادر الحسيني قادمين من القدس كما انضم أغلب رجال قبائل تلك الأصقاع إلى الثورة.
اشتكبت القوات العربية مع القوات العثمانية في معركة فاصلة قرب معان وأسفرت المعركة عن شبه إبادة للجيش السابع التركي وكذلك الجيش الثاني، وسقطت معان في 23 سبتمبر 1918 تلتها عمان يوم 25 أيلول/سبتمبر ثم درعا يوم 27 سبتمبر، وقبلها بيوم، أي في 26 سبتمبر كان الوالي العثماني وجنده قد غادروا دمشق إيذانًا بزوال حكم العثمانيين عنها، ودخلت قوات الثورة المدينة يوم 30 سبتمبر، وفي 8 أكتوبر دخل الجيش الإنكليزي إلى بيروت وفي 18 أكتوبر خرج العثمانيون من طرابلس وحمص وفي 26 أكتوبر 1918 دخلت قوات الثورة العربية والحلفاء إلى حلب، وأبرزت هدنة مودروس في 30 أكتوبر 1918، والتي نصت على استسلام جميع القوات العثمانية وقبول الدولة العثمانية تخليها عن بلاد الشام والعراق والحجاز وعسير واليمن نهائيًا.[90]
بعد زوال الحكم العثماني، تشكلت حكومة مؤقتة برئاسة علي رضا الركابي، وفي يونيو 1919 أصبح المؤتمر السوري العام بمثابة برلمان بلاد الشام، وهو ما كرّسه في إعلان استقلال بلاد الشام باسم “المملكة السورية العربية” في 8 مارس 1920، غير أن الحلفاء رفضوا الاعتراف بالدولة التليدة، وفي أبريل 1920 خلال مؤتمر سان ريمو في إيطاليا قرر الحلفاء تقسيم البلاد إلى أربع مناطق تخضع بموجبها سوريا ولبنان للانتداب الفرنسي والأردن وفلسطين للانتداب البريطاني، وإن كان لبنان ومعه الساحل السوري وكذلك فلسطين لم تدخل عسكريًا تحت حكم المملكة نظرًا لكون جيوش الحلفاء فيها منذ نهاية الحرب العالمية، فإن الجيش الفرنسي توّجه نحو دمشق واحتلها في أعقاب معركة ميسلون يوم 24 يوليو 1920، وبذلك دخلت سوريا مرحلة الانتداب الفرنسي عليها.
الإدارة
التقسيم الإداري
عد فتح السلطان سليم الأول لبلاد الشام عام 1516 أبقيت التقسيمات الإدارية كما كانت عليه أيام المماليك مع استبدال لفظ “نيابة” بلفظ “إيالة” ولفظ “نائب” بلفظ “والي” ويلحقه لقب التشريف باشا. اعتبرت بلاد الشام ولاية واحدة مركزها حلب ومقسمة إلى مجموعة من الوحدات الإدارية الأصغر هي السناجق. في عام 1549 تم التقسيم الأول:[91]
إيالة حلب، وتحوي عشر سناجق هي حلب وأضنة ومرعش وعنتاب والبيرة/أورفة وكلس ومعرة النعمان وسلمية وحماة وحمص.
إيالة دمشق، وتحوي ثمانية سناجق هي دمشق وطرابلس الشام وصفد ونابلس والقدس واللجون والسلط وغزة.
في عام 1579 تم تعقيد التقسيم الإداري مع استحداث إيالة جديدة على أراضي كلا الولايتين السابقتين واستحداث سناجق جديدة، فأصبح التقسيم الإداري وفق الشكل التالي:[92]
إيالة حلب، وتحوي خمسة سناجق هي حلب وأضنة ومرعش وعنتاب والبيرة/أورفة.
إيالة طرابلس الشام، تحوي أربعة سناجق هي طرابلس الشام واللاذقية وحماة وحمص.
إيالة دمشق، وتحوي عشرة سناجق هي دمشق وبيروت وعكار وصيدا وصفد ونابلس والقدس وغزة وحوران ومعان.
وفي عام 1568 أنشئت رابعة الإيالات السوريّة وهي إيالة الرقة التي تشمل مناطق الجزيرة الفراتية وبادية الشام بهدف تأمين سيطرة أوسع على البدو، وفي عام 1660 استحدثت خامسة الإيالات وهي إيالة صفد التي سميت فيما بعد إيالة صيدا التي كانت تشمل عكا والجليل وصفد وجبل عامل وجبل لبنان، وقد استحدثت للرقابة على جبل لبنان.
مكث التقسيم إلى خمس ولايات معتمدًا حتى القرن التاسع عشر ففي عام 1861 أنشئ نوع جديد من الإدارة هو المتصرفية. كانت أولى المتصرفيات “متصرفية جبل لبنان”، وفي العام 1874 أصبحت القدس “متصرفية القدس الشريف”. في عام 1877 وخلال فترة “التنظيمات” أعيد تقسيم البلاد إداريًا من جديد، واستبدل لفظ “إيالة” بلفظ “ولاية”، علمًا أن المتصرفيات لا تتبع للوالي بل ترتبط مباشرة بالصدر الأعظم. خلال فترة التنظيمات استبدل لفظ “إيالة” بلفظ “ولاية”، واستمرّ التقسيم منذ 1877 وحتى زوال الدولة عام 1918 وفق الشكل التالي:
ولاية حلب، وقد فصلت عنها ولاية أضنة.
ولاية سوريا، وعاصمتها دمشق وتشمل أيضًا الأردن وفلسطين.
ولاية بيروت، التي شملت مناطق كانت تتبع إيالة صيدا، وامتدت من اللاذقية شمالاً حتى نابلس جنوبًا، دون بعلبك والبقاع التي مكثت خاضعة لولاية دمشق.
متصرفية جبل لبنان، التي استحدثت في أعقاب مجازر 1860.
متصرفية القدس الشريف.
متصرفية الزور، التي ورثت إيالة الرقة، وشملت مناطق واسعة من الجزيرة الفراتية وبادية الشام.[93]
وإلى جانب الولايات والسناجق هناك الدرجة الثالثة من التقسيمات وهي الأقضية على سبيل المثال فإن سنجق اللاذقية كان مقسمًا إلى أربعة أقضية هي اللاذقية وجبلة والحفة وبانياس. هذه التقسميات في المدن كان يقابلها أيضًا تقسيمات إقطاعية وراثية أصغر حجمًا وتديرها في الغالب إما عائلات بعينها أو أوقاف أو فرسان من الإنكشارية أو كبار ضباط الجيش.
الولاة
حسب شهادة المؤرخ فيليب حتي فإن اختيار الباب العالي للولاة لم يكن موفقًا في أغلب الأحيان، وكان الخوف من تمرد الولاة ماثلاً بشكل دائم ما ولّد حالة من عدم الاستقرار، على سبيل المقال تعاقب خلال السنوات السبعة الأولى بعد خروج محمد علي باشا من بلاد الشام ثمانية ولاة على كل من طرابلس وصيدا، وتوالى على دمشق بين عامي 1516 و1700 أي خلال 184 عامًا 133 واليًا، 33 منهم فقط مكثوا في منصبهم ما يفوق السنتين. وبين عامي 1815 و1895 وهو تاريخ صدور آخر قانون ولايات عثماني توالى على دمشق 61 واليًا بمعدل والي كل عام. ولم تكن حلب أحسن حالاً إذ تتالى تسعة ولاية خلال ثلاث سنوات في الفترة ذاتها.[94]
وكان أغلب الولاة من غير السوريين ومن غير العرب، ولذلك فهم لم يملكوا المعلومات ولا الخبرة ولا القدرة الكافية لفهم واقع بلاد الشام المقسمة إثنيًا وطائفيًا وعشائريًا ومناطقيًا، وكذلك فشلوا في إقامة نظام إدارة مركزية قويًا، وكان لصغار الإقطاع على الداوم سيّما في الريف والمدن المتوسطة والصغيرة الكلمة الفصل، وكان في وسع الولاة استخلاص الكثير من إصلاحات إبراهيم باشا في البلاد لكن أيًا من ذلك لم يتحقق.[95]
يضاف إلى ذلك كون ولايات الشام بعيدة نسبيًا عن العاصمة لذلك فإن أراد السلطان التخلّص من أحد سياسييه وإبعاده عن حاضرة الدولة عيّنه واليًا على هذه المناطق كما حصل مع مدحت باشا على سبيل المثال، إلى جانب الرشوة التي كان يدفعها البعض لحاشية السلطان لضمان تزكية اسمهم أمامه، وكانت ولايات الشام بغناها الاقتصادي والبشري فضلاً عن وقوعها على طرق الحج تشكل فرصة سانحة لأمثال هؤلاء.[96] ولا يمكن أن يغفل من فشل الولاة قضية صراع حكام الولايات المتجاورة مع بعضهم البعض والمعارك المسلحة التي كانت تنشأ بين ولاة دمشق وطرابلس وعكا بشكل شبه دائم، وكان من آثار هذه المعارك الداخلية إلى جانب انعدام الأمن زيادة الضرائب الداخلية في الولاية لتمويل جيشها.[96] بكل الأحوال، لا يمكن في الوقت ذاته إغفال تعاقب ولاة مصلحين وذوي آثر سياسية واقتصادية وعمرانية هامة على البلاد، كولاة آل العظم في دمشق وكذلك مدحت باشا وناظم باشا، كما أن الباب العالي حاول حل مشكلة الولاة غير المستقرين، في التنظيمات والأشكال الإدارية اللاحقة، كالمتصرفية والقائممقامية إذ حددت ولاية المتصرف أو القائممقام سلفًا بعشر سنوات
الأمن والقوى العسكرية
المرتزقة
حتى إلغاء السلطان محمود الثاني للإنكشارية واستحداثه جيشًا حديث الطراز، كان الجند العثماني في سوريا مؤلف من 3 أقسام: الإنكشارية السلطانية الذين يرسلهم السلطان من الأستانة ويسمون القبوقول وولائهم للسلطان في الأستانة ويستطيع الوالي استخدامهم وفق صلاحيات معينة؛ طوائف من المرتزقة الذين استوردهم الولاة من الجزائر والمغرب والموصل، أو من الأرناؤوط والبوشناق والأكراد والتركمان وبرز من فرقهم الدلاتية واللاوند والسكمان وولائهم للولاة الذين ينفقون عليهم؛ عناصر محلية تحت زعامات الأعيان المحليين ويسمون اليرلية وولائهم للأعيان المحليين.[97][98] وقد عانت الشام كثيرا من الصراعات المتكررة فيما بين فرق الجنود. إلى جانب جند الولاة، فإن الإقطاع المحلي في الريف، غالبًا ما عمد إلى تأسيس جماعات مسلحة تسليحًا خفيفًا، لصدّ قطاع الطرق أو هجمات البدو، وكذلك لفرض رغبته على فلاحي الإقطاعية، خصوصًا فيما يتعلق بجناية الضرائب.
الجيش العثماني الخامس
حين أسس السلطان محمود الثاني الجيش العثماني عام 1826، قسّمه إلى سبعة أقسام موزعة في جميع أنحاء الدولة وترتبط مباشرة بوزارة الحربية في اسطنبول؛ وكان “الجيش العثماني الخامس” ومقرّه دمشق، الجيش المستقر في الولايات السورية الثلاث، والمتصرفتين، وكذلك ولاية أضنة؛ وقد عرف هذا الجيش أيضًا باسم جيش عربستان، وعدّل اسمه لاحقًا إلى الجيش الرابع.[99][100] اعتبر الجيش العثماني الخامس من الجيوش الهامة في الدولة، وترأسه مشير يتقاضى 125 ليرة ذهبية شهريًا، وتتالى على رئاسته بوشناق، وتتار، وتركمان، وأرناؤوط، ولم يحدث أنّ عيّن مشير من أبناء الولاية سوريًا أو عربيًا باستثناء المشير زكي باشا الحلبي الذي تم استبداله بجمال باشا في بداية الحرب العالمية الأولى؛ واستجلب لتدريب أفراده ضباط ألمان، وهو ما جعله قوي التنظيم والإنضباط؛ في حين تشكل من أربعة فرق مشاة موزعة على ثمانية ألوية، اثنان منها مقرها دمشق والباقي في بيروت ومراكز الألوية الأخرى.[101] وقد أبرق السلطان عبد الحميد الثاني إلى علي باشا والي دمشق مشيدًا “بقتال السوريين وتضحياتهم للدفاع عن الدولة” ويدعوهم لفتح باب التبرع في سبيل الجيش عام 1877، كما أشار السلطان في برقية أخرى أرسلها إلى الوسيط بينه وبين ثيودور هرتزل أن اثنتين من كتائب جيشه اللتين قدمتا من سوريا وفلسطين قد “أبيدتا عن آخر رجل” في معركة بلافنا خلال الحرب ذاتها مع الإمبراطورية الروسية.[102] واعتبر المشير نائبًا للوالي في حال غيابه، إلا أن التنافس بين شاغلي المنصبين لم يهدأ، وغالبًا ما كانت العلاقات سيئة بين المشير ووالي دمشق
الأمن الداخلي
قبل استحداث “الدرك” عام 1864 لم تكن تحوي سوريا قوات شرطة أو أمن داخلي؛ بعد صدور قانون الولايات الإصلاحي في عهد السلطان عبد العزيز استحدثت قوات شرطة، غير أنها مكثت في دمشق والمدن الكبرى، واختفت عن الريف والطرقات بين المدن؛ واستحدث عام 1867 مفشتون عامّون، لهم صلاحيات رؤساء المخافر – أو الكراكونات – لمراقبة الجمارك، والأجانب، وتذاكر السفر، والأسعار، والأوزان، ونظافة المدن، غير أن عدد الشرطة لم يتجاوز في جميع ولاية سوريا 1363 فارس، و1012 من المشاة، وهو ما يفسّر ضعف فعاليتها
«أخد عسكر»
إنّ الجندية الإجبارية في الدولة العثمانية والتي عرفت بقانون “أخد عسكر” الصادر عام 1886 كان لها وقع الكوليرا في نفوس السكان، كما كتب الوالي مدحت باشا.[105] يترتب على التجنيد الإجباري التزام المجنّد لعشرين عامًا، أربعة أعوام فعليّة والباقي في الاحتياط في عهد عبد المجيد الأول، وخمسًا وعشرين عامًا خمسة فعلية والباقي في الاحتياط في عهد عبد الحميد الثاني؛ وتتم القرعة سنويًا على الشباب، في مراكز الولايات كما في مراكز الألوية والأقضية، بأمر من السلطان؛ ورغم فتح باب التطوع فإن التطوع لم يتجاوز 20-80 سنويًا غالبًا بدافع الفقر.[106] وقد عفا القانون العثماني، عن وحيد أمّه، والمتزوج بقاصرة، من أداء الخدمة الإجبارية؛ وسمح للغني بتخفيض مدة خدمته إلى خمسة أشهر داخل الولاية في حال دفع بدل نقدي هو خمسين ليرة ذهبية، وفي بعض المناسبات وصلت قيمة البدل إلى مائتي ليرة ذهبية؛ وبشكل عام كان الشبان يلجؤون لإحداث عيوب دائمة في أجسادهم، أو الزواج بقاصرات، أو الهرب من المدن في موعد القرعة إلى الغوطة أو إلى أقضية ومناطق أخرى هربًا من التجنيد؛[107] وغالبًا ما كان الولاة يرفعون عدد الشبّان المطلوب تجنيده، طمعًا بالضغط على السكان لتحصيل البدل النقدي؛ ومما زاد في تذمّر السكان إرسال المجندين إلى مناطق بعيدة كاليمن أو البلقان، وكانت المطالبة الدائمة أن يقضي الشبّان فترة التجنيد ضمن نطاق الولاية ما لم تكن هناك حالة حرب.[108]
وجنّد من ولايات سوريا الثلاث 250,000 رجل خلال الحرب العالمية الأولى
الاقتصاد
الزراعة والصناعة
كانت معظم الأراضي الزراعية في عهد الدولة العثمانية يعتبر إما ملكًا للإقطاع وإما ملكًا للسلطان وبشكل أقل أهمية ملكًا للأوقاف؛ وقد أهملت مساحات واسعة من الإراضي الصالحة للزراعة بسبب عدم اهتمام الجهات المالكة لها باستثمارها، فتحولت لأراض بور، وخلال القرن الثامن عشر ضعف الاهتمام بالريف فانخفض عدد القرى المأهولة من 3200 قرية إلى 400 عام 1785 ولا شكّ أن انعدام الأمن وهجمات قطاع الطرق لعبت دورًا في ذلك.[110] وحتى ختام العهد العثماني كان نظام الري بدائيًا يعتمد على مياه المطر، ورغم ذلك مكثت الزراعة المورد الرئيسي لثلاثة أرباع السكان؛ ولم تنشط محاولات إصلاحها إلا في عهد إبراهيم باشا إبّان الحكم المصري، والذي وطّد الأمن، ووطّن البدو، وألغى التمايز الطبقي في الحقوق والواجبات بين الإقطاع والفلاحين. وباستثناء بعض السلع الكمالية كالدخّان، والحرير، والقطن، فإن الولايات السورية غالبًا ما كانت تستهلك إنتاجها محليًا ولم تصدر منه شيئًا؛[111] بل دخلها خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، محصولات ما كانت بها قبلاً، كزراعة الموز، وقصب السكر، والقنب؛ كما افتتح مصرف زراعي عثماني عام 1887، رغم محدودية منافعه.[112]
أما الصناعة، فاقتصرت على الصناعات الحرفية اليدوية،[113] وأعمال الحياكة من الصوف والحرير؛ ومع بداية القرن العشرين كان في حمص 5,000 عامل في قطاع المنسوجات وحده، واشتهرت المدينة بالمصانع حتى أسماها القنصل البريطاني “مانشستر السورية”، وكانت عشرين باخرة سنويًا تأتي من فرنسا لنقل تبغ جبال اللاذقية إلى أوروبا والذي اشتهر بجودته، وفتحت فروع لبنوك فرنسية وإنكليزية في سوريا، وكانت البلاد تصدر مختلف أنواع المزروعات والصناعات إلى أوروبا والولايات المتحدة وكانت فرنسا على رأس المستهلكين بنحو ثلث الصادرات؛[114] وباستثناء هذين المجالين فلا صناعة تذكر حتى القرن العشرين، حين افتتحت الدولة أواخر عهدها ثلاث مصانع للإسمنت في حلب ودمشق، ومصنعًا للأثاث الحديث في بيروت، ومصنعان آخران في المدينة نفسها لإنتاج الزيت آليًا، وكذلك الورق.[115]
التجارة
ومنذ 1581 أخذ التجار الإنكليز والفرنسيين يتسابقون على الاستثمار في المدن الكبرى مثل دمشق وحلب على وجه الخصوص، وبحسب تقرير القنصلية البريطانية فإن حلب وحدها اشتملت على ستين تاجرًا إنكليزيًا عام 1622.[116] وبحسب ما ذكر فيليب حتي فإن شهرة حلب التجارية قد بلغت شأنًا مرتفعًا في الغرب وذكرت في أدبيات تلك المرحلة بما فيها شكسبير؛ وقد ذكر أحد مؤرخي الدولة عام 1770 كما نقل حتي أيضًا أن مصلحة الجباية في ولاية حلب لديها من المال ما يكفي لشراء الصدارة العظمى نفسها في العاصمة.[110] وكانت المدينة تعتبر ثالث مدن الدولة أهميةً بعد كل من الآستانة والقاهرة،[116] وقد ساعد نشاط حلب في الاستيراد والتصدير نمو صناعات عديدة على رأسها الحرير في لبنان والقطن في الجزيرة الفراتية والصوف والزيت في فلسطين والتبغ في اللاذقية والذي اعتبر من “أجود دخان عصره”،[117] وما ساهم في انتعاش السوق السورية أيضًا كون أسعارها أقل مقارنة بأسعار التجار البرتغاليين الذين كانوا يديرون شؤون التجارة عبر المحيطات الجنوبية حينها، وهو ما ساهم في عودة موقع سوريا التجاري بين الشرق والغرب.[110] ويلاحظ بشكل خاص في سوريا العثمانية ازدهار “الخانات”، وهي بناء مربع من طابقين في وسطة ساحة مكشوفة يستخدم في ادلور الأسفل مستودات للبضائع وفي الدور الأعلى كفندق للتجار.
عاد الازدهار مجددًا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، سيّما مع مشروع سكة الجديد الذي يربط الآستانة بحلب ومنها نحو بعداد والذي اعتبر “قناة السويس السورية” لنقل البضائع وتيسير مرورها على طريق حلب التي منها انطلق أيضًا الخط الحديدي الحجازي نحو دمشق والحجاز وبالتالي جلبت “قناة السويس السورية” هذه ازدهارًا لموانئ البلاد في طرابلس وإسكندرون وبيروت، وتحولت سوريا وحلب على وجه التحديد إلى “السوق الرئيسية للشرق الأدنى كافة” وأنشأت نقابات للتجار والعمال بعضها أجنبي كنقابة تجار البندقية؛[118]
الضرائب
بلغ عدد الضرائب التي يدفعها الفرد في الدولة العثمانية قبل عهد التنظيمات وبعده سبعًا وتسعين ضريبة؛ ومن المعلوم أنه خلال قرن واحد بين 1582 و1681 كانت الضرائب قد ارتفعت على الأفراد مقدار ثلاثة عشر ضعفًا؛[119] وبحسب النظام المعمول به يعود لكل والي في مركز ولايته فرض وجمع الضرائب بحيث ترسل سنويًا مبالغ منها إلى السلطان في إسطنبول، والقسم الثاني ينفق على الجيش العثماني المرابط في حدود الولاية، والقسم الثالث على نفقات الولاية، وغالبًا ما احتملت ولاية دمشق قسمًا رابعًا هو نفقات تجهيز موكب الحج.[120] الضريبة السنوية المرسلة إلى إسطنبول بلغت قيمتها في بداية العهد العثماني مليون إقجة، وانخفضت عبر القرون، مع تدهور الاقتصاد السوري وعدم تمكنه من تحصيل مثل هذه المبالغ. منح الوالي صلاحية فرض الضرائب دفع إلى «تفنن الولاة» في فرض الضرائب لتغطية نفقات الولاية المختلفة: ضريبة العيد، ضريبة قدوم الوالي الجديد، ضريبة العزوبة، ضريبة الزواج، ضريبة الولادات، الضريبة على شجرة الزيتون، الضريبة على ثمرة الزيتون، الضريبة على الأرض، الضريبة على العقار، الضريبة على سقف العقار، الضريبة على أبواب العقار، وهكذا دواليك.[121] إلى جانب ذلك، كانت تفرض الرسوم الجمركية بين الولايات، أي أن نقل المنتجات من حلب إلى دمشق، كان يستلزم دفع 20% من القيمة كرسوم جمركية؛ بينما كانت الوارادت من أوروبا ذات رسم جمركي بنسبة 4% فقط.
جمع الضرائب كان يتم عبر مفارز عسكرية؛ ولفترة طويلة بطريقة التلزيم، التي تنصّ على أن يتولى الأثرياء دفع مجموع الضريبة على مدينة أو منطقة معينة سلفًا، ثم يقوم بإستيفائها من عموم الأفراد المكلفين بالضريبة، مع هامش من الربح يقرره هو بذاته، وبذلك تحولت الضرائب العثمانية إلى سلعة مع ربح فاحش؛ أما سبب استعمال طريقة التلزيم فيعود لحاجة الدولة للنقود في مواعيدها أو سلفًا عن ميعادها، بينما عملية التحصيل تستغرق زمنًا طويلاً.[122] حتى 1871 لم يكن هناك من نظام محدد لنفقات الولاية أو طريقة صرف أموالها.
موكب الحج
منح السلطان والي دمشق منصب «أمير الحج»، وهو ما لم يكن يعني فقط قيادة الوالي لقافلة الحجيج المتجمعة في دمشق، بل أيضًا إشراف الولاية على تجهيز القافلة بما يلزمها؛ وهو ما كان يكلّف ثلث واردات ولايتي دمشق وصيدا، إذ لضخامة المبلغ كلّفت ولاية صيدا بأداء جزء من التكاليف. معظم التكاليف، كانت تتعلق بأمن القافلة، لاسيّما دفع الأموال للقبائل التي تصادفها في طريقها؛ وغالبًا ما كانت بعض كبريات القبائل التي اعتبرت «دون دين» تنهب القافلة ما لم يتم دفع أتاوة عليها.[123] في أواخر القرن التاسع عشر، فصلت الدولة بين واجبات والي دمشق بتجهيز قوافل الحج، وبين منصب أمير الحج، نظرًا لانفلات الوضع في قرى دمشق مع غياب الوالي السنوي؛ بموجب النظام الجديد بات السلطان يعيّن سنويًا أحد أفراد أسرته بوصفه أميرًا للحج، وهو ما زاد من نفقات الحج 4300 كيس إضافي، تدفعها ولاية دمشق راتبًا للباشا أمير الحج.[124]
الثقافة
يدعم العثمانيون الثقافة خلال فترة حكمهم لسوريا، فلا يذكر التاريخ شاعرًا أو أديبًا أو عالمًا أو جغرافيًا سوريًا خلال الفترة الممتدة من القرن السادس عشر وحتى القرن التاسع عشر، ولذلك فهو برأي البعض عصر “جمود وعقم”.[125] يستثنى من ذلك عدد من العلماء الذين نبغوا في العاصمة أمثال المؤرخ أحمد بن سنان القرماني الدمشقي المتوفي عام 1610 ونجم الدين المحدّث المتوفي عام 1651 ومحمد القرني التلمساني المتوفي عام 1632 والذي وضع “تاريخ الأندلس الأدبي”، ومن الأعلام البازرة خلال تلك الفترة أيضًا عبد الغني النابلسي المتوفي عام 1731 وهو فيلسوف وعالم صوفي، إلى جانب بعض رجال الدين أمثال الفقيه إبراهيم الحلبي المتوفي عام 1594 والذي ألّف كتابًا بالفقه الحنفي هو «ملتقى الأبحر» غدا مصدر التشريع والقضاء في الدولة قاطبة حتى صدور “مجلة الأحكام العدلية”.[126]
في النصف الثاني من القرن التاسع عشر انطلقت “النهضة العربية” وكان أحد جناحيها في سوريا ولبنان بينما الآخر في مصر، ولم تكن النهضة بتشجيع عثماني بقدر ما كانت نتيجة إصلاحات إبراهيم باشا وعوامل عدة منها منع التمييز بين المواطنين وانتشار الجامعات والمدارس الأجنبية والوطنية وتحسّن الاتقصاد، وقد برز خلال النهضة عدد وافر من الشعراء والأدباء في الوطن كما في المهجر، إلى جانب نشوء الجمعيات السياسيّة التي تقابل الأحزاب حاليًا، ومن منظري السياسة في تلك المرحلة عبد الرحمن الكواكبي وساطع الحصري. أما على صعيد الصحافة وهي بدورها كانت غائبة عن الدولة حتى 1831 وعن اللغة العربية حتى عام 1855 حين قام رزق الله حسون الحلبي في إسطنبول بإنشاء أول صحيفة عربية أسماها «مرآة الأحوال» لتكون من الثمار المبكرة للنهضة، تلتها صحيفة «السلطنة» عام 1857، وأما أول صحيفة تصدر في سوريا فهي «حديقة الأخبار» عام 1858 من بيروت وقد أنشأها خليل الخوري تلتها «نفير سوريا» عام 1860 على يد بطرس البستاني و«الجنائن» عام 1871، ومن بعدها تكاثرت الصحف وانتشرت أيضًا الصحف ذات الانتشار المحلي على مستوى المدن، كما انتقل عدد من الصحفيين إلى مصر التي كانت تنعم بجو من الحرية في عهد الخديوي إسماعيل وأسسوا فيها صحفًا ودوريات أدبيّة.[127]
وكالصحافة كذلك المكتبات، لم تكن البلاد تحوي من المكتبات شيءًا سوى ما تحويه مكتبات المساجد الكبرى، وخلال النهضة أعيد افتتاح وتنظيم بعض المكتبات السابقة كالمكتبة الظاهرية في دمشق عام 1880 والتي أصبحت “دار الكتب الوطنية”، وتأسست المكتبة الشرقية في بيروت عام 1880.[128] وعدد من المكتبات الأخرى الأصغر حجمًا في سائر المدنن ويعود للفترة ذاتها نشأة المسرح السوري على يد أبو خليل القباني.[129]
أما اللغة، فقد بقيت اللغة العربية هي اللغة الواسعة الانتشار والفهم في البلاد خلال العصر العثماني، ولم تفلح سياسة جمعية الاتحاد والترقي بدءًا من أواخر القرن التاسع عشر إحلال التركية مكانها، رغم كون التركية وطوال العهد العثماني اللغة الرسمية في دوائر الدولة رغم مطالبة الجمعيات السياسية والثقافية العربية الاعتراف باللغات المحلية في الولايات. يذكر فيما يخصّ اللغة أن عددًا وافرًا من المصطلحات التركية قد دخلت اللهجة السورية خصوصًا تلك المتصلة بالسياسة أو الجيش أو الطعام،[130] مثل طبنجة للإشارة إلى البندقية، وكراكون للإشارة إلى مخفر الشرطة وكزلك للإشارة إلى النظارات، إلى جانب استخدام اللازمة جي من اللغة التركية وإضافتها للصفات بحيث تصبح موصوفًا أي مثلاً مشكلجي للإشارة إلى الأشخاص الكثيرو المشاكل وخضرجي لبائع الخضار، وبحسب بحث أجري العام 1929 فإن لهجة أهل دمشق تحوي نحو 600 لفظة تركية؛[131] إلى جانب الألقاب التركية مثل باشا وآغا وخواجا، وبشكل عام فإن اللغة التركية تعتبر ثاني لغة اقتبست منها اللهجة الشامية بعد اللغة السريانية؛[132] أما المطبخ السوري تأثره بدوره بالمطبح التركي سيّما المأكولات الحلبيّة وتشمل قائمة المأكولات المنتشرة في سوريا عدة أصناف من الأطعمة ذات المنشأ التركي كالشاورما والشيش طاووق والشيش برك وسواها. يعتبر الحكواتي الذي يقصّ السير على مستعمين في القهوة من عناصر الثقافة السورية خلال العصر العثماني إلى جانب عدة آثار أخرى في المجتمع كاستعمال الطربوش.
التعليم
كان المسجد حتى القرن التاسع عشر يشكل حلقة التعليم الأولى والوحيدة في الدولة ويتم بها تلقين الكتابة والقراءة ومبادئ الرياضيات، ولدى المسيحيين كان الأمر مشابهًا في الكنائس، وفي المدن الكبرى مدراس البعثات التبشيرية والرهبنات.[134] وبحسب شهادة الشيخ طاهر الجزائري الذي عاصر تلك الفترة فإنه كان يندر أن تجد في الحي إلا أفرادًا قلائل يجيدون القراءة والكتابة بشكل جيد، أو مواطنًا قرأ كتابًا واحدًا في حياته.[134] وظلت سوريا لا تحوي أي مدرسة حكومية أو جامعة حتى قدوم إبراهيم باشا وعنايته بتأسيس ثلاث مدراس في دمشق وأنطاكية وحلب كانت تخرج ستمائة طالب سنويًا وعدد أكبر من المدارس الابتدائية للذكور والإناث في المدن الصغيرة والمتوسطة، وكان مدحت باشا أول الولاة العثمانيين الذين اهتموا ببناء المدارس فأسس في ولايته سبع مدارس ابتدائية ومدرسة للأيتام وأخرى عسكرية ورابعة ثانوية بين عامي 1878 و1880. خلال الفترة السابقة لمدحت باشا واللاحقة لابراهيم باشا أي بين 1840 و1880 افتتح عدد كبير من المدارس والمعاهد والجامعات ولكنها كانت تابعة للبعثات والقنصليات الأوروبية وانحصر تأثيرها في علية القوم وطبقتهم الغنية، وقد دعا بعض المفكرين أمثال بطرس البستاني إلى أهمية تأسيس مدارس وطنية غير أوروبية وافتتح بنفسه عددًا منها أواسط القرن التاسع عشر، ويعود للفترة ذاتها تأسيس أول جامعتين في سوريا هما الكلية السورية الإنجيلية عام 1866 والتي أصبحت لاحقًا “الجامعة الأمريكية في بيروت”، وجامعة القديس يوسف عام 1874، وكان نواة تأسيس جامعة دمشق باسم “الجامعة السورية” عام 1903 وأصبحت جامعة رسميًا عام 1913.[135] ولم يلغ دور المسجد نهائيًا إلا مع تطور وانتشار المدارس في كافة أنحاء دمشق، وقد بلغ عدد مدارس المدينة أواخر القرن التاسع عشر 103 مدارس منها 19 مدرسة مختلطة و16 مدرسة للإناث و68 مدرسة للذكور.[136
الدين
كفلت الدولة الحرية الدينية نظريًا وفق «نظام الملل»، ومع ختام العهد العثماني كان ما بين 25 و 30% من السكان مسيحيين وما بين 70 و 75% من مسلمين عمادهم الرئيس السنّة وهم الأغلبية يليهم العلويون والإسماعيليون والدروز، وأقلية أخرى من الشيعة الاثني عشرية رغم أن هذه المجتمعات الدينية لم تعتبرها الدولة مسلمة. وجد أيضًا عدد وافر من اليهود سيّما في دمشق وحلب والقامشلي.
غير أنّ «نظام الملل» وجده المؤرخين أداة لتقسيم الدولة على نحو طائفي، وازدياد التكتل المذهبي فيها خاصة مع حصر علاقة الدولة مع مواطنيها غير المسلمين عن طريق طوائفهم الدينية.[137] ويرى المؤرخ ألبرت حوراني، أن كون رؤساء الطوائف المختلفين بعد تثبيتهم من قبل السلطان تغدو لقراراتهم صفة القانون النافذ، في الشؤون الدينية والمدنيّة أيضًا أحد أبرز سلبيات هذا النظام؛ رغم ذلك فإن كارل بروكلمان اعتبر أن الدولة “كانت تعيش أجمل أيامها في النصف الأول من القرن السادس عشر، كملجأ للسلام الديني بين مختلف الجماعات، بوجه أوروبا المضطهدة”. أعطى العثمانيون للموارنة امتيازًا ميزهم عن سائر الطوائف المسيحية، وهو عدم وجوب طلب البطريرك والمطارنة الفرمان من الباب العالي، كي تعترف الحكومة بسلطتهم على رعاياهم.[138]
أما طبقة المشايخ، كانت تتمتع بسلسلة امتيازات خاصة تشبه ما للإقطاعيين في النظام الاقتصادي، فهم ذوي استقلال داخلي، ولهم رواتب من وزارة الأوقاف الإسلامية التي تعينهم وتنقلهم وتعفيهم وفق مصالحها، كذلك فهم معفيون من الضرائب. وكان للأساقفة والكهنة والحاخامين بضع امتيازات شبيهة. أما القضاء فكان منحصرًا بيد الطبقة الدينية كل حسب دينه، ولم تأخذ المحاكم التجارية والجزائيّة بالظهور إلا مع القرن التاسع عشر وإصلاح الدولة.[139]
المساواة بين المواطنين
حتى 1831 لم يكن هناك مساواة بين المواطنين، وكان محمد علي أول من أدخل قضية المساواة في الحقوق والواجبات بين المواطنين وعادت الدولة عبر خط كلخانة بتبنيها عام 1839، وأعادت التأكيد على ذلك في الخط الهمايوني عام 1856؛ بكل الأحوال فإن الوظائف الإدارية والقضائية ظلت شبه محصورة بالمسلمين السنّة، واستمرت حماية الدول الأوروبية للمسيحيين، كما أن المساواة لم تشمل فعليًا مجال الخدمة العسكرية والانخراط في الجيش، إذ استمرّ غير السنّة بدفع بدل نقدي، يبلغ مجيديين سنويًا أي خمسي الليرة العثمانية الذهبية عن كل ذكر بين السادسة عشر والسبعين ثم عدلت لتصبح بين العشرين والأربعين.[140] أما أبرز ما سقط فهو الجزية، ومنع تعييرات المسيحيين واليهود،[141] وفي عام 1841 أصدر الباب العالي فرمانًا آخر يقضي بتجريم التمييز بين السوريين على اختلافهم.[139]
عدم المساواة، تمثلت بالتقييدات التي وضعها النظام على بناء وترميم المؤسسات الدينية، وسلسلة إجراءات تمييزية كالإجبار على لبس ثياب قاتمة أو المنع من السير وسط الطريق، أو استخدام ألفاظ شائنة، وغيرها من الإجراءات المنسوبة إلى عمر بن عبد العزيز، وإن كان بعض الباحثين قد أعادها إلى المتوكل على الله في القرن التاسع.[142] وأيًا كان، فإن هذه الإجراءات قد دفعت المسيحيين إلى التقوقع في أحياء خاصة كباب توما وباب شرقي في دمشق والحميدية في حمص وأدت أيضًا إلى انعزال مدن صغيرة مسيحية كصيدنايا وصافيتا وزحلة في الريف.
الامتيازات الأوروبية للمسيحيين
نتيجة غياب المساواة بين المواطنين، أبرمت تفاهمات بين الدول الأوروبية والدولة العثمانية، منذ القرن السابع عشر، تقوم من خلاله الدول الأوروبية برعاية مصالح وحماية مسيحيي سوريا، وقد باتت أوروبا تعتبر هذه الامتيازات “حقوقًا لها”، فحمت فرنسا والنمسا الكاثوليك والإمبراطورية الروسية الأرثوذكس، وبريطانيا الجماعات البروتستانتية الصغيرة؛ وكانت الامتيازات تشمل تسهيلات في السفر، والتقاضي أمام محاكم خاصة، والتعليم، والإعفاء من الضرائب في قطاعات بعينها، وتعيين قناصل أو تراجم أو موظفين قنصليين في البلاد.[143]
المجتمع
كان عدد سكان سوريا حين سيطر عليها العثمانيون نحو مليون نسمة، ومع بداية القرن العشرين كان العدد نحو ثلاثة ملايين ونصف، لعلّ إحدى أبرز مميزات العهد العثماني سيّما في القرن التاسع عشر تمثل بتوطين البدو في قرى جاهزة أقيمت في ريف دمشق وحول حمص وحلب بل وفي مناطق أخرى على نهر الفرات نشأت مدن جديدة بحد ذاتها. فمنبج القديمة التي تعود بتاريخها للعصر الحثي كانت قد هُجرت وخُرّبت أيام المماليك، وقد قدمها عبد الحميد الثاني للبدو والشركس المهاجرين عام 1873، وخلال السنوات اللاحقة لفت موقعها التجاري وتربتها الخصبة مزيدًا من المواطنين فاستقرت بها عشائر كردية ووافدين من حلب، ورمم مسجدها الذي يعود لأيام نور الدين زنكي عام 1880؛ واتبعت المنطقة للأملاك السلطانية المباشرة والخاصة واستمرت في ذلك حتى عام 1908 وهو عام خلع عبد الحميد.[144] كذلك حال المدينتين التاريخيتين في قرقيسيا والرحبة، حيث تم توطين جزء من عشائر العقيدات في المدينتين ما أدى إلى انتعاشهما،[145] وفي دير الزور تأسست المدينة بشكلها الحديث عام 1830 ومنح أهلها سلاحًا للدفاع عنها من هجمات العشائر كحال عشيرة أبو سرايا التي كانت تغير بين الفنية والأخرى على المدينة بهدف السيطرة عليها، وفي عام 1868 أصبح الدير متصرفية خاصة، فسعى المتصرفون لتشييد المباني الحجرية وشق الطرقات والعناية بالزراعة وإدخال الزي الأوروبي والعادات الحضرية، فانتعش عدد سكانها من نحو ألف إلى نحو تسعة آلاف بداية القرن العشرين، وهم عائلات وبطون من قبائل شمر والبقارة وحرب.[146] وقد أدى ازدهار دير الزور أواخر العهد العثماني لازدهار عدد من البلدات والقرى المجاورة كالميادين والبوكمال، من قبائل تلك النواحي.
العامل الثاني في ديموغرافيا سوريا خلال تلك المرحلة تمثل بقدوم آلاف الشركس للعيش في سوريا بعد الحرب الروسية العثمانية عام 1877،[147] أيضًا فإن الأرمن بعد المذابح الأرمنية والسريان في أعقاب المذابح الآشورية قد وفدوا من الأناضول والعراق إلى سوريا، وبينما استقر الأرمن على وجه الخصوص في حلب ودمشق وحمص وكسب، فإن الجزيرة الفراتية – محافظة الحسكة حاليًا – وحمص، كانت الجاذب الأكبر للآشوريين.[147] يذكر في هذا الخصوص أنّ دير الزور كانت إحدى الأماكن التي هُجّر إليها الأرمن قسرًا من الأناضول بأعداد كبيرة، وقد لاقى العديد من الأرمن حتفهم فيها.[148][149] علمًا أن موجة الهجرة الآشورية تكررت في أعقاب مذبحة سميل عام 1933.
أيضًا فإن الهجرة من سوريا نحو العالم الجديد سيّما نحو الولايات المتحدة والبرازيل قد بدأ في أعقاب النصف الثاني من القرن التاسع عشر؛ نشطت الهجرة في أوساط الريف والمدينة على حد سواء، وكان جور الإقطاع المحلي والضرائب الباهظة والتجنيد الإجباري وسياسة التتريك التي انتهجتها جمعية الاتحاد والترقي فضلاً عن الامتيازات الأوروبية على رأس عوامل الهجرة، التي تحولت إلى ما يشبه الظاهرة، ونشأت جمعيات أدبية واجتماعية في المهجر تنادي بحقوق المغتربين،[150] كما ارتبطت بالذاكرة الشعبيّة عن طريق مجموعة من الأغاني والزجليات.
مذابح الأرمن
تعرض الارمن في عهد الدولة العثمانية إلى عدة مجازر لعل أهمها المجازر الحميدية ومجزرة أضنة ومذابح الأرمن خلال الحرب العالمية الأولى حيث راح ضحيتها ما بين 500 الف وثلاثة ملايين ارمني.[16]
يوم 24 نيسان في عام 1915 فيه تم اعتقال أكثر من 250 من أعيان الأرمن في إسطنبول.[17][18] وبعد ذلك، طرد الجيش العثماني الأرمن من ديارهم، وأجبرهم على المسير لمئات الأميال إلى الصحراء من ما هو الآن سوريا، وتم حرمانهم من الغذاء والماء، المجازر كانت عشوائية وتم مقتل العديد بغض النظر عن العمر أو الجنس، وتم اغتصاب والاعتداء الجنسي على العديد من النساء.[19] اليوم أغلبية مجتمعات الشتات الارمني نتيجة الإبادة الجماعية.
قامت الدولة العثمانية في قتل متعمد والمنهجي للسكان الأرمن خلال وبعد الحرب العالمية الأولى،[20] وقد تم تنفيذ ذلك من خلال المجازر وعمليات الترحيل، والترحيل القسري وهي عبارة عن مسيرات في ظل ظروف قاسية مصممة لتؤدي إلى وفاة المبعدين. يقدّر الباحثين ان اعداد الضحايا الأرمن تتراوح ما بين 1 مليون و1.5 مليون نسمة.[21][22][23][24][25]. مجموعات عرقية مسيحية أخرى تم مهاجمتها وقتلها من قبل الإمبراطورية العثمانية خلال هذه الفترة كالسريان والكلدان والآشوريين واليونانيين وغيرهم، يرى عدد من الباحثين ان هذه الأحداث، تعتبر جزء من نفس سياسية الإبادة التي انتهجتها الإمبراطورية العثمانية ضد الطوائف المسيحية.