المهندس الفنان حسن فتحي رائد فلسفة العمارة الهندسية
عندما تنصهر المشاعر مع الطبيعة يكون الفنان وعندما يمتزجا بعلم الهندسة المعمارية يكون المهندس الفنان حسن فتحي.
منظومة من الإبداع خطها المهندس “حسن فتحي” .. منظومة تفاعل فيها ذكاؤه مع البيئة؛ لتضعه في مصاف المعماريين الفنانين، شغل حياته دائما بالفقراء وبنى لهم قصورا من طين، استغل بيئته المحلية ليصل بها إلى العالمية، حتى حصل على جائزة “أحسن معماري في القرن العشرين”، وحصد عدد من الجوائز والأوسمة لم يكن ليحصل عليها لولا تمسكه ببيئته وتراثه، ويشكلها في إطار خاص، مصبوغة بموهبته الهندسية المتفردة.
وُلد “حسن فتحي” في الإسكندرية في 23 مارس 1900، وانتقل مع أسرته في طفولته إلى القاهرة، ليسكن في حي الجمالية العتيق (الذي ظل يسكنه طيلة حياته)، تخرج من مدرسة “المهندسخانة” (كلية الهندسة) بجامعة فؤاد الأول (القاهرة حالياً) عام 1925، وعُين كأول عضو مصري في هيئة التدريس الحديثة بمدرسة الفنون الجميلة في عام 1930، ثم أوفدته الكلية في بعثة إلى باريس ليدرس الدكتوراه.
المهندس الفنان حسن فتحي رائد فلسفة العمارة الهندسية
بنى “حسن فتحي” بيوتا بالطوب اللبن، وسقفها بقباب صبغها بجمال معماري بديع، فلم يصممها كمهندس، يهتم بحساباته العلمية ومعاييره الهندسية في المتانة والتصميم فقط، لكنه طعمها بروح فنان يرتبط ببيئته ويعشقها، ليضع لمساته الفنية الجمالية على المباني لتتجاوب مع البيئة المحيطة، بتكلفة اقتصادية بسيطة، ولم يكن البحث عن الأشكال المحلية مبعثه رغبة عاطفية للاحتفاظ ببعض من تذكار القرى القديمة، وإنما استعادة الإرث.. ” كنت أود أن أمد جسرا على الفجوة التي تفصل المعمار الشعبي عن معمار المهندس التقليدي، وأن أوفر صلة متينة مرئية بين هذين المعمارين في شكل ملامح مشتركة بينهما معا”.
وكان المهندس “حسن فتحي” يرى أن استخدام مواد عالية التقنية، مثل قوالب الخرسانة المسلحة والحوائط الزجاجية، جريا وراء التحديث، في تجاهل للأسس العلمية والحضارية التقليدية والبيئية القديمة، التي تعاملت مع معطيات البيئة وحلت مشكلاتها، أدي بنا إلي كارثة مادية وإنسانية، وقدم المهندس “حسن فتحي” فلسفة تصميماتها من العمارة الأوروبية التي تفضل الانفتاح على الخارج، مع الارتباط الوثيق بالبيئة المحلية.
لقد نما في فكر “حسن فتحي” استخدام الطوب اللبن والطين في البناء؛ بناء على شواهد أثبتت قوة ومتانة هذه الخامة في البناء، فبعد بحوث علمية أجراها على النمط ذاته من المباني التاريخية، التي تعود لأكثر من 2500 عام، استنتج قوة خاماته وتناسب تصاميمه، ومن تلك المباني مخازن قمح “الرامسيوم” بمدينة الأقصر المصرية والمبنية بخامة الطوب اللبن ومسقوفة بالقباب.
لكن المنتقدون كانوا يستشهدون في نقدهم لهذا الأسلوب في البناء ببيوت الفلاحين المبنية بالطوب اللبن، والتي قد يصيبها العطن والظلام، ولكن بعد دراسته لتلك البيوت وجد أن العطن والظلام ليسا راجعين لكونها من الطين، بل يرجعان إلى الطريقة العشوائية التي يبني بها الفلاح بيته دون مرشد، بعد أن انقطع عن تراثه، كما أن العلوم المعمارية لم تقدم حلولا ترشده في بناء بيته في حدود اقتصادياته وإمكانات بيئته، ولم يدرك الفلاح المصري الفقير بخبراته البسيطة، أن يتغلب على مشكلة سقف منزله المبني بالطوب اللبن، فكان إما أن يضع على سقفه خوصا، ما يتسبب في إحداث مشكلات كثيرة، أو يترك السقف عاريا، غير أن السقف باستخدام الخشب لم يكن متوفرا إلا لأغنياء الفلاحين، ولم يمتلك هؤلاء الفلاحون الفقراء مهارات بناء أسقف المباني باستخدام الطين، وحل المهندس “حسن فتحي” مشكلة تسقيف المباني، باستخدام القبو ذي المنحنى السلسلي، وبذلك امتنعت كل جهود الشد والانحناء والقص، واقتصرت على جهود الضغط على السقف.
يقول “حسن فتحي” عن فلسفته في بناء القباب: “حينما انتقل العرب لمرحلة الاستقرار، بادروا بإسقاط فلسفتهم في استعارات معمارية، تعكس رؤيتهم للكون، وهكذا ظهرت السماء كقبة تدعمها أربعة أعمدة.. هذا المفهوم الذي يعطي قيمة رمزية للبيت كتصغير للكون”.
وأثبت “حسن فتحي” من خلال تصميماته، أن الطوب الأخضر يتحمل الضغوط الواقعة عليه، وبذلك أخضع التكنولوجيا لاقتصاديات الأهالي الفقراء، بحيث تسمح بإنشاء هذه الأسقف المقببة بدون صلبات أو عبوات خشبية.
كان مهندس الفقراء لا يبحث عن عملاء أغنياء ليصمم لهم قصورا ومباني فخمة، بل كان يبحث عن هذا الفقير الذي قال عنه: “العميل الذي يعنيني هو من تمثله الإحصائيات التي تشير إلى أن هناك 800 مليون من البشر في العالم الثالث يموتون موتا مبكرا بسبب الإسكان الشائه غير الصحي .. هذا هو العميل الذي على المعماري الاهتمام به ولكنه لا يفعل .. إن الأمر يشبه الطبيب حافي القدمين في الصين .. إن هؤلاء يحتاجون إلى معماري حافي القدمين”.
يقسم المتخصصون مراحل إبداع عبقرية “حسن فتحي” الهندسية إلى خمس مراحل، تبدأ المرحلة الأولى في العام 1926، بعد تخرجه مباشرة، وفيها كان يتبع الطرز العالمية في البناء، والمرحلة الثانية بدأت في عام 1937واتجه فيها إلى اكتشاف وإحياء العمارة المحلية، وأبرز مشاريعها قرية “القرنة” حيث بناها تبعًا لطريقته في بناء بيوت الفلاحين، وأثبت على نطاق واسع وواقعي، أن بناء القرى بالطوب اللبن تقل تكاليفه عن البناء بأي مادة صناعية أخرى، فضلا عن تناسب هذا البناء مع البيئة المحيطة، وتبدأ المرحلة الثالثة في عام 1957 وهي فترة عمله في اليونان، وفيها قام بالعديد من المشاريع، وشارك في مشروع مدينة المستقبل، أما المرحلة الرابعة 1963، فتعد أكثر المراحل إنتاجية وإبداعا، وأشهر مشاريعها قرية “باريس” في مصر ، وتعد المرحلة الخامسة هي أقل المراحل إنتاجا؛ لتقدم عمر عبقرية الهندسة وبدأ هذه المرحلة في عام 1980 وانتهت بوفاته عام 1989 وأهم مشاريعها هي قرية “دار الإسلام” والذي نقل “حسن فتحي” إلى بؤرة الأضواء عالميا، وأنجز جانبا منه في “نيومكسيكو” بالولايات المتحدة الأمريكية لحساب “منظمة دار الإسلام” وقد نفذ من تصميماته لهذه القرية: المسجد، والمدرسة، وبيت الطلبة، جمع فيها بين طابع المباني الإسلامية في المنطقة العربية، والأسلوب الريفي في الأسقف القبابية، وحقق هذا المشروع أكبر الأثر في حسن استقبال نظرياته المعمارية، وتوالى بعد ذلك التقدير العالمي لفنه، والاحتفال بأسلوبه والاعتراف به كأحسن المعماريين، قبل وفاته بخمس سنوات فقط.
ومن المشروعات التي قام بها المهندس الفذ في المملكة العربية السعودية، مشروع “منزل نصيف” الذي نفذه عام 1973، ومازال تصميم هذا المنزل يجذب الانتباه في المملكة حتى اليوم، وكان تأييد الدكتور “عبد الرحمن نصيف” غير المحدود لأفكار “فتحي” نابعا من اقتناعه الشخصي بقيمة التقاليد، وهو الاتجاه الذي يجد قبولا متزايدا هذه الأيام، في المنطقة التي شهدت اختفاء الكثير من ميراثها المعماري منذ بناء المنزل، وفي أثناء عمل “حسن فتحي” في بناء قصر كبير في تبوك بالمملكة العربية السعودية في 1974 فوضته منظمة الأمم المتحدة للتنمية الريفية بزيارة بلدة الدرعية كاستشاري؛ حيث كانت مهمته المحددة هي تصميم منزل نموذجي، يكون مثالا يحتذي للمنازل الأخرى التي سيتم بناؤها في البلاد لتحسين الحياة القروية. وقد وجد “فتحي” في الدرعية أمثلة علي العمارة النجدية المبنية بالطين.
عمل “حسن فتحي” مهندسا بالمجالس البلدية في العام 1926 وحتى عام 1930، ثم مدرسا بكلية الفنون الجميلة حتى عام 1940، وفي عام 1949 شغل منصب رئيس إدارة المباني المدرسية بوزارة المعارف، حتى عام 1952، وفي عام 1950 عمل خبيرا بمنظمة الأمم المتحدة لإعانة اللاجئين، ثم أستاذا بكلية الفنون الجميلة، ورئيس قسم العمارة بداية من 1953وحتى 1957، ثم عمل لدى مؤسسة “دوكسياريس” كخبير للتصميم والإنشاء بأثينا، وحاضر بمعهد “أثينا” للتكنولوجيا في الفترة من عام 1957 وحتى عام 1962، أما في عام 1963 فشغل منصب رئيس مشروع تجريبي للإسكان، فمستشارا لوزارة السياحة، ثم عين خبيرا بمنظمة الأمم المتحدة في مشروع التنمية بالمملكة العربية السعودية في عام 1966، وفي العام نفسه انتدب أستاذا زائرا في قسم تخطيط المدن والعمارة بجامعة الأزهر الشريف، وفي العام التالي عمل خبيرا بمعهد “أدلاي ستفنسون” بجامعة شيكاغو، وانتدب أيضا ما بين عام 1975 وحتى عام 1977 أستاذا زائرا للإسكان الريفي في كلية الزراعة جامعة القاهرة، هذا فضلا عن العديد من المناصب الشرفية التي شغلها، ومنها رئاسته مجمع الدائرة المستديرة الدولية لتخطيط عمارة القاهرة. وكان لـ”حسن فتحي” العديد من المؤلفات أهمها كتاب “عمارة الفقراء” الذي كتبه بالإنجليزية، وصدر في طبعة محدودة عن وزارة الثقافة المصرية 1969، ثم طبع طبعات متعددة بلغات مختلفة في العديد من أنحاء العالم، وكتاب “الطاقة الطبيعية والعمارة التقليدية: مبادئ وأمثلة من المناخ الجاف الحار” والذي نشرته المؤسسة العربية للدراسات والنشر عام 1988. كما كان له الكثير من الأبحاث في مجال العمارة والإسكان والتخطيط العمراني وتاريخ العمارة بالإنجليزية والفرنسية والعربية.
حصل المهندس الفنان “حسن فتحي” على جوائز عديدة، تقديرا لإنجازاته ومن هذه الجوائز جائزة الدولة التشجيعية في العمارة عن تصميم وتنفيذ قرية “القرنة الجديدة” (النموذجية بالأقصر) عام 1958م، وفي العام التالي، حصل على وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى، ثم جائزة الدولة التشجيعية للفنون الجميلة، وفي العام 1960 حصل على ميدالية هيئة الآثار المصرية، أما في عام 1967 فحصل على جائزة الدولة التقديرية للفنون الجميلة، وحصل في عام 1980 على جائزة الرئيس من منظمة “الأغاخان” للعمارة، وفي نفس العام حصل على جائزة “نوبل” البديلة “RLA” وهي جائزة يقدمها البرلمان السويدي في اليوم السابق لتوزيع جوائز “نوبل” التي يقدمها ملك وملكة السويد (والتي لا تضم جائزة للهندسة المعمارية)، وحصل في العام نفسه أيضا على جائزة “بالزان” العالمية.
وحصل في العام 1984 على الميدالية الذهبية الأولى، من الاتحاد الدولي للمعماريين كاحسن مهندس معماري في العالم عن تصميمه “قبة الاتحاد الدولي للمعماريين “UIA” بأحسن مهندس معماري في العالم في ذلك الوقت، ويضم هذا الاتحاد تسعة آلاف معماري يمثلون 98 دولة، وأعلن وقتها أن نظرياته الإنشائية ومفاهيمه المعمارية يتم تدريسها للطلاب في 44 جامعة بالولايات المتحدة وكندا وجامعات أخرى في دول شمال أوربا، أما في العام 1987 فحصل على جائزة “لويس سوليفان” للعمارة (ميدالية ذهبية) من الاتحاد الدولي للبناء والحرف التقليدية.
وحصل على الجائزة التذكارية لكلية الفنون الجميلة بجامعة المنيا عام 1988 وقد نالها خلال المؤتمر العلمي الرابع لها، وقد أعلن “حسن فتحي” عند تسلمه الجائزة أن هذا هو أول تكريم من محفل أكاديمي مصري يحصل عليه في حياته، وكان ذلك قبل وفاته بعام واحد.
تُوفي المهندس العبقري “حسن فتحي” عام 1989م دون أن يتزوج، تاركا وراءه إرثا عظيما من الأفكار، ليرثها كل الفقراء ومن يهتم بهم.