شخصيات لا تنسي

شجرة الدر.. الجارية التى أصبحت أول ملكة للمسلمين !!! من هي؟

كانت واحدة من عشرات أو مئات الجوارى فى حرملك السلطان نجم الدين أيوب (1240 ـ 1249م) أعظم سلاطين البيت الأيوبى بعد الناصر صلاح الدين، وكان لقبه الملك الصالح، ثم أصبحت أول ملكة فى تاريخ الإسلام، ووقف الخطباء على المنابر يدعون لها بالتوفيق والسداد، باعتبارها ملكة المسلمين، وصاحبة الستر الرفيع، وكان لقبها “أم خليل”، وبهذه الألقاب السابقة كانت تصدر المراسيم، وصارت هى الرمز لقدرات المرأة العربية والمسلمة، عندما خرجت مع زوجها لقتال الحملة الصليبية، ولما مات زوجها السلطان وسط جنوده فى ساحة المعركة، تولت القيادة من بعده، حتى تحقق النصر، وأصحبت قصتها من المأثورات التى تتناولها الأجيال، خاصة أن فيها جوانب مثيرة للغاية.. إنها قصة الجارية.. الملكة.. السلطانة.. أم خليل.. إنها شجرة الدر.

يقول ابن كثير فى ترجمته لها، فى وفيات عام 656هـ، بالجزء الثالث عشر من البداية والنهاية، أنها كانت من محظيات الملك الصالح نجم الدين أيوب، وهى من أصل تركى، وكان ولدها من السلطان هو “خليل”، كان فى أحسن الصور، ومات صغيرا، وكانت فى خدمته لاتفارقه سفرًا ولاحضرًا، وقاست معه الكثير، فدخلت معه السجن عندما سجن فى قلعة الكرك بفلسطين، وجاءت معه إلى القاهرة حين صار سلطانا، ودخل ركبها من الباب الشرقى، وأخذ يشق طريقه فى شارع المعز، وسط الأعلام وزحام الناس، الذين خرجوا لرؤية السلطان وزوجته شجرة الدر، ثم خرج الركب من باب زويلة متجها إلى قلعة الجبل التى بناها سلفه السلطان الناصر صلاح الدين.

ويقال أن شجرة الدر هى التى أشارت على السلطان نجم الدين، ببناء قلعة الروضة عند مقياس النيل، بعيدًا عن قلعة الجبل التى اشتهرت بالدسائس والمؤامرات، فأخذ السلطان برأيها، وبنى تلك القلعة التى أصبحت مقرا للماليك البحرية فى العهود اللاحقة، وهى التى أشارت عليه بشراء مماليك أشداء أقوياء وتدريبهم جيدا على فنون القتال، استعدادا للحملة الصليبية المنتظرة، وأشفقت عليه كثيرًا يوم أن قرر السفر إلى مدينة المنصورة ليكون قريبا من أرض المعركة، ومن جنوده وجيشه الذى يخوض القتال ضد الصليبيين.

ففى عهد السلطان الصالح نجم الدين أيوب، هوجمت مصر من الصليبيين، فقد أبحر الأسطول الصليبى من ميناء مرسيليا الفرنسى إلى قبرص، وكان يقود هذه الحملة ـ هى الثامنة بين الحملات الصليبية ـ لويس التاسع ملك فرنسا، وفى العشرين من صفر سنة 647هـ الموافق 4يونيو سنة 1249م، نزل الصليبيون قبالة دمياط، ونزل لويس التاسع بنفسه فى مياه الشاطئ الضحلة، وهو يرفع سيفه ودرعه، وانسحب المدافعون عن المدينة بسرعة بعدما ظنوا أن ملكهم المريض قد مات، ففر السكان، وبالتالى سقطت دمياط بدون مقاومة، وبدأت الحملة تعد العدة لمواصلة زحفها داخل أرجاء مصر، وكان السلطان نجم الدين وقتها مريضا، واستقبل خبر سقوط دمياط بمزيج من الألم والمرارة، وقرر إعدام عدد من الفرسان المكلفين بالدفاع عن دمياط، وأصر على الانتقال إلى المنصورة للتصدى للحملة الصليبية، والدخول معها فى حرب لإيقاف تقدمها.

وبدأت معركة المنصورة متخذة شكل حرب عصابات فى البداية، واشترك كل أبناء المدينة فى مقاومة الغازى الصليبى، وكثرت أعداد الأسرى الصليبيين ومواكبهم فى شوارع المنصورة، وفى خضم هذه الأحداث، توفى الملك الصالح نجم الدين أيوب، يوم الاثنين 14شعبان سنة 647هـ، الموافق 20 نوفمبر سنة 1249م.

أدركت شجرة الدر أن إعلان وفاة السلطان فى هذا الوقت الحرج سيؤدى إلى إشاعة الفوضى، والتأثير بالسلب على معنويات الجنود، وبالتالى وقوع الهزيمة وضياع البلاد كلها، فاتخذت قرارها الذى سجله التاريخ، وهو إخفاء خبر وفاته عن الرعية، واستدعت طبيبه ليقوم بتغسيله وتكفينه، ثم استدعت ثلاثة من خلصائها وأسرت إليهم بالنبأ، وتعاونوا جميعا على نقل جثمان السلطان سرا فى مركب نيلية من المنصورة إلى قلعة الروضة بالقاهرة، ووضعه فى قاعة من قاعات تلك القلعة.

وظلت الأمور تسير بشكل طبيعى كما لوكان السلطان على قيد الحياة، فالطعام يحمل إليه فى مواعيده، والطبيب يعوده صباح مساء، والأوامر الرسمية تصدر إلى الأمراء والقواد ممهورة بتوقيعه وخاتمه، وكان الذى يقلد توقيعه بشكل متقن خادم يسمى “صواب السهيلى”، وجاز ذلك على كل الذين وصلتهم المراسيم السلطانية، فى مختلف أمور الدولة.

وهكذا سارت الأمور كما رسمتها شجرة الدر، فلم يتغير شىء، وكل ماكان يتردد هو أن السلطان مريض، وأن صحته تتحسن يوما بعد يوم، وتفرغت شجرة الدر لقيادة المعركة مع الصليبيين، فأخذت تضع الخطط وتشجع الجنود، وتدفع بالخطباء إلى المساجد، وترسل الأخبار إلى مختلف أنحاء البلاد، وتتلقى الأنباء، وتدفع بالفدائيين إلى مواجهة الأعداء.

وبفضل عزيمتها وثباتها، وروحها العالية.. نشط الناس وتحركوا للجهاد، وأخذوا يهاجمون جيش الفرنجة تحت ستار الظلام، وفى وضح النهار، حتى فى يوم العيد.. دارت المعارك بعد صلاة العيد، وكانت شجرة الدر تبعث بالأسرى أفواجا إلى القاهرة، فيطاف بهم فى الشوارع والحوارى ليراهم الناس، فتتعالى التكبيرات ويتوجه الكثيرون إلى المنصورة للجهاد، وتشتعل الحماسة فى قلوب كل المصريين، فيندفعون لملاقاة العدو الغازى غير مبالين بأى خطر.

وأحضرت شجرة الدر قادة الجيش وأمراء المماليك إلى منزل السلطان بالمنصورة، وأعلنت لهم خبر مرض السلطان، وتكليفهم بأن يأخذوا البيعة لولى عهده، وهو ابنه “توران شاة” الذى كان غائبا عن القاهرة، فبعثت رسولا إلى الشام ليستدعيه للحضور على عجل.

وصل توران شاة إلى مصر، وبمجرد أن وصل إلى المنصورة، أعلنت شجرة الدر وفاة السلطان الصالح نجم الدين أيوب، وكان قد مضى على وفاته أكثر من شهرين، وأعلنت تولى توران شاة زمام الأمور، لكنها لم تخل يدها عن الأمر، وظلت قابضة على مقاليد أمور الدولة كلها، فقد كان السلطان الجديد شابا أرعنا، لا هم له سوى إشباع شهواته، بينما كان همها هى إنقاذ الوطن وطرد الأعداء.

ووقعت المعركة الحاسمة بالمنصورة، ولم يجد الملك لويس التاسع غير الفرار للنجاة بحياته، فالتجأ إلى قرية منية أبى عبدالله بالقرب من فارسكور، تاركا وراءه عشرات الآلاف من الضحايا، لكن تم أسره، واقتيد إلى دار القاضى ابن لقمان بالمنصورة، ذليلا مهانا فى حراسة الطواشى صبيح.

وبعد أن تحقق النصر، شرعت شجرة الدر فى دفن زوجها السلطان نجم الدين أيوب، فخرج جثمانه من قلعة الروضة فى يوم جمعة، وتمت الصلاة عليه بعد صلاة الجمعة، وكان الأمراء وكبار رجال الدولة يلبسون البياض حزنا عليه، وخرجت جموع الناس لوداع السلطان، وأغلقت الأسواق، وساروا به إلى القبة الجميلة التى أنشأتها له شجرة الدر فدفن تحتها، وأقيم له عزاء استمر ثلاثة أيام فى منطقة بين القصرين بالقرب من المكان الذى دفن فيه، ثم وضعت شجرة الدر عند قبره راياته ودروعه وسيفه، ورتبت عددا من القراء يقرأون على روحه القرآن بشكل مستمر.

بعد دفن السلطان نجم الدين تتابعت الأحداث على نحو مثير للغاية، فالسلطان الجديد توران شاة ابن السلطان نجم الدين أيوب، والذى أتت به شجرة الدر ليحل محل أبيه ويكون سلطانا للبلاد، لم يكن يهتم بغير شهواته وملذاته، وسرعان ماغضب منه أمراء المماليك، ولم يكمل فى السلطنة شهرين حتى قتله الأمير عز الدين أيبك التركمانى ومملوكه قطز البندقدارى وبعض من رجالهم، حيث حاصروه فى منزل من خشب، وأحرقوه عليه فخرج يستغيث، وألقى بنفسه فى النيل فمات غريقا، وأخرجوا جثمانه وداسوا عليها كالجيفة، وكان ذلك يوم الاثنين 27 من المحرم عام 648هـ.

بعد ذلك اجتمع الأمراء وكبار رجال الدولة، واتفقوا على أن تتولى شجرة الدر أمور البلاد، وتكون هى السلطانة، وقد كان، فأصبحت تحمل ثلاثة ألقاب: صاحبة الستر الرفيع، وملكة المسلمين، وأم خليل أمير المؤمنين.. وكانت هذه الألقاب الثلاثة من بين عديد من الألقاب التى خلعت عليها رسميا، وصدرت بها المراسيم.

أما عن الملك لويس التاسع قائد جيوش الغزاة الصليبيين، والذى أودع أسيرا فى دار القاضى ابن لقمان بالمنصورة، فقد أرسلت زوجته برسالة إلى شجرة الدر تستعطفها، فى إطلاق سراح زوجها الأسير، فأذنت شجرة الدر فسمحت شجرة الدر بأن تستقبل رسلا من فرنسا للتفاوض حول وضع الملك الأسير، مقابل فدية قدرها أربعمائة ألف دينار، لكنهم عجزوا عن دفع الفدية، فقبلت شجرة الدر أن يدفعوا نصفها، وأن يؤجلوا النصف الآخر، وأخذت زوجة لويس تجمع المال المطلوب للفدية من المتبرعين فى بلادها، وتم إطلاق سراحه وبقية الأسرى من الجيش الصليبى، وانسحبت فلولهم من دمياط فى 8 مايو 1250م.

اكتسبت شجرة الدر رضاء الشعب، وأغدقت الأموال على المماليك لإرضائهم، وصكت الدنانير باسمها، لكن الأمر لم يستمر كثيرا لصاحبة الستر الرفيع، فقد أرسل الخليفة العباسى المستعصم بالله من بغداد إلى أمراء مصر، يؤنبهم على اختيار امرأة، لتكون سلطانة عليهم، ويسألهم فى سخرية: إذا لم يكن عندكم رجال يصلحون للسلطنة فأخبرونا نرسل لكم رجلا، وتقول بعض المصادر التاريخية أن الخليفة العباسى لم يعترض على سلطنة شجرة الدر لمجرد أنها امرأة، بل بسبب دسائس الجوارى فى قصره اللاتى كدن يمتن من الغيظ بسبب تولى جارية السلطنة، وكانت جوارى مصر تثير جوارى قصر الخلافة عليها، واستجاب الخليفة العباسى لدسائس الجوارى فأرسل مكتوبه الذى يعترض فيه على تولى شجرة الدر حكم مصر.

لم تقف كثيرًا شجرة الدر أمام تلك المشكلة، ففكرت فى كيف تقطع الطريق على الطامعين فى الاستيلاء على حكم مصر، وانتهت إلى قرار يحفظ لها سلطانها، وهو أن تتزوج برجل لايسلبها سلطانها، وتستمر هى فى إدارة شئون البلاد، واختارت أن يكون هذا الرجل هو عز الدين أيبك التركمانى أحد كبار أمراء المماليك فى مصر وقتها، وتزوجته بالفعل، وأصبح هو سلطان البلاد.

كان عز الدين أيبك متزوجا بسيدة تدعى “أم على”، وله منها ولد يسمى المنصور ومصاب بنوع من التخلف العقلى، فأهمل زوجته الأولى، وهام عشقا فى شجرة الدر التى كان فى يوم ما خادما لزوجها السلطان نجم الدين، وكانت هذه النقطة سببا لكثرة الأقاويل وانتشار الدسائس.. فكيف تتزوج زوجة السلطان نجم الدين بمن كان خادمه وتجعله سلطانا؟!.. وكيف ينتقل حكم مصر إلى مملوك والبيت الأيوبى مازال عامرا بالرجال؟!

وعلى جانب آخر كان أمراء المماليك المناوئون لعز الدين أيبك يسخرون منه، ويشيعون بأنه مجرد لعبة فى يد شجرة الدر، وأنه لاحول له ولا قوة، سوى توقيع المراسيم والأوامر التى تصدرها شجرة الدر، وقامت الجوارى بدور كبير فى إشعال نار الفرقة بين أيبك وزوجته، فقدمن له رسالة وقالوا له إنها كانت مرسلة من شجرة الدر إلى صاحب حلب، وتعده فيها بملك مصر، وبالزواج منها إذا قتل أيبك، واقترحت الجوارى عليه أن يبدأ هو بقتلها، لكنه خشى ذلك لعلمه بأن الجنود يحبونها، ومماليك زوجها الراحل يكفلون لها الحماية، فعادت الجوارى يقترحن عليه أن يعمل على إذلالها، وذلك بالزواج من أخرى، واقترحوا عليه ابنة صاحب الموصل بدر الدين لؤلؤ.

علمت شجرة الدر بما ينتويه أيبك، فقررت أن تقتله، وهكذا استدرجته لليلة حالمة، وجلست تناجيه وتبدى معاتبته، وعند الفجر دخل إلى الحمام، وأطلقت شجرة الدر لحظتها إشارة متفق عليها مع جواريها فدخلوا عليها، وامسكوه لها، وظلت تضرب فيه بالقباقيب حتى لفظ أنفاسه، ولما سمع مماليكه وعلى رأسهم قطز صوت استغاثته، وعلم بالواقعة اقتحم القصر، وقام فورا بقتل شجرة الدر، وألقى بجثمانها على مزبلة منزوعة الثياب لمدة ثلاثة أيام، ثم دفنت بالقرب من قبر السيدة نفيسة.

وفى زمن لاحق، جاء من رد لها اعتبارها، فنقل رفاتها إلى المقبرة التى بنتها لنفسها تحت قبة خاصة، أمام ضريح السيدة رقية بالقاهرة، وكتب على قبرها:

“بسم الله الرحمن الرحيم.. عز الستر الرفيع، والحجاب المنيع، عصمة الدنيا والدين، والدة الملك المنصور خليل ابن مولانا السلطان الملك الصالح نجم الدين أبى المظفر أيوب ابن مولانا الملك الكامل ناصر الدين أبى المعالى محمد بن أبى بكر بم أيوب خليل أمير المؤمنين.. قدس الله روحه، ونور ضريحه، التى خطبت الأقلام بمناقبها على المنابر.. وشهدت لها المغافر بالمجد، الثابت فى أعلى العز بين الورى، وأصبحت شموس المملكة بها طالعة، وآراء الأمراء لأمرها مطيعة وسامعة، وأعز الله أنصارها، وضاعف اقتدارها، وأعلى منارها، وجعل النيرين فى العلا الأعلى خدامها، ولم تزل مؤيدة منصورة على مر الليالى والأيام، بمحمد وآله وصحبه الطيبين الطاهرين الكرام”.

تبرز هنا قصة منتشرة على نطاق واسع، وهى أن زوجة أيبك، التى تدعى أم على، وأم ابنه المنصور، لما علمت بمقتل زوجها، جاءتها فى مجموعة من مماليك زوجها، وتمكنت منها، وقتلتها بالقباقيب، وبعد ذلك صنعت نوعا من الحلوى وزعته على كل الجنود وطوائف من الشعب، وسميت هذه الحلوى بـ “أم على” ولاتزال موجودة حتى يومنا بنفس الاسم!!

والحقيقة أن هذه القصة، شأن قصص كثيرة ليس لها أى وجود، فالذى قتل شجرة الدر هو قطز، الذى نسبه على أحمد باكثير فى روايته “وا .. إسلاماه” لأسرة خوارزم شاة، ولا يوجد مصدر تاريخى واحد يقول بذلك، فهو كان مجرد مملوك من أصول تركية، ولايمت للخوارزميين بأى صلة، وتاريخنا ملىء بالأخطاء التى يجب أن نتداركها.

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button