من عظمة البيان القرآني أنه يعطينا التعبير العلمي الدقيق والمختصر في أقل عدد من الكلمات، فكلمة (مَرَجَ) تتضمن العديد من المعاني أهمها:
1- الخلط: يقول العلماء إن هنالك خلطاً ومزجاً مستمراً للماء المالح بالماء العذب، وهذا الخلط لا يتوقف أبداً، إذ أن سطح الماء يرتفع وينخفض باستمرار وبنظام محكم، ويبقى كل ماء منفصل عن الآخر بمنطقة محددة بينهما هي ما سمّاه القرآن بالبرزخ، هذا البرزخ قد يمتد لعدة كيلو مترات. ومن معاني كلمة (مرج): خلط، كما رأينا.
نرى في هذا الشكل نهر الفرايزر الذي ينبع من كولومبيا ويصب في مياه المحيط المالحة. ونرى كيف تتشكل الجبهة المالحة والتي تعتبر بمثابة حاجز محكم تمر من خلاله المياه العذبة إلى المياه المالحة. ونرى أيضاً كيف يطفو الماء العذب على سطح الماء المالح، وعندما درس العلماء جريان الماء في هذه المنطقة وجدوه جرياناً مضطرباً، مع العلم أن الذي ينظر إلى الماء يظنه ساكناً، وهذا يتوافق تماماً مع قوله تعالى (مرج البحرين)، والمرج هو الاضطراب، فسبحان الذي يعلم السرّ وأخفى!
2- الاضطراب: إذا نظرنا إلى منطقة المصب نلاحظ أن الجريان مستقر، وأنها منطقة هادئة غالباً. ولكن التجارب الجديدة في منطقة البرزخ المائي بين النهر العذب والبحر المالح أشارت إلى أن الجريان هو جريان مضطرب، وهذه معلومات دقيقة لم يصل إليها العلماء إلا حديثاً جداً[9]. وهذا هو أحد معاني كلمة (مرج).
- الاختلاف: هنالك اختلاف في درجات الحرارة والملوحة تبعاً لليل والنهار، المنحني الأسود المتعرج يمثل المدّ والجزر، أي يمثل ارتفاع مستوى سطح الماء وانخفاضه بين الليل والنهار، يمثل الخط الأحمر اختلاف درجة الحرارة بين الليل والنهار، أما الخط الأزرق فيمثل اختلاف درجة الملوحة بين الليل والنهار. طبعاً عندما يرتفع مستوى سطح البحر فإن درجة ملوحة الماء تزداد في منطقة البرزخ، بينما عندما يكون البحر في حالة الجزر، فإن كمية الماء العذب المتدفقة من النهر تزداد، وبالتالي تنخفض ملوحة الماء في منطقة المصب.
وتجدر الإشارة إلى أن الاختلاف في درجة الملوحة يتبع الليل والنهار والشهر والفصل ودرجة الحرارة وحركة المد والجزر. وربما نتذكر قوله تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) [آل عمران: 190]. ففي هذه الآية الكريمة إشارة إلى الاختلافات والتغيرات الكثيرة التي نشاهدها خلال الليل والنهار، ومنها الاختلافات في الحرارة والملوحة في منطقة البرزخ. وتتضمن كلمة (مرج) هذا المعنى.
حساسية البرزخ المائي
إن الذي يتأمل التعبير القرآني (برزخ)، يلاحظ أن هنالك مسافة تفصل بين النهر العذب والبحر المالح، وهذه المنطقة حساسة جداً، فالبرزخ هو الحاجز بين الشيئين[11]. وقد ثبُت علمياً أن هذا البرزخ المائي حساس جداً ويجب العناية به، فهو آية من آيات الله ونعمة ينبغي أن نحافظ عليها، ولكن ما الذي حدث؟
لقد كان الناس وحتى السنوات القليلة الماضية يجهلون طبيعة وأهمية وحساسية هذا البرزخ، ولكن اكتشفوا ذلك بعدما تلوث عدد كبير من مصبات الأنهار في الدول المتقدمة صناعياً، مثل الولايات المتحدة الأمريكية.
فقد وجد العلماء أن منطقة المصبات تحوي ترسبات في قاعها تتراكم خلال السنوات الماضية، وكل طبقة تعبر عن سنة، وتعطي فكرة واضحة عن البيئة السائدة في ذلك الوقت، وعن نوعية الملوثات التي كان يتم إلقاؤها في هذه المنطقة، أي أن منطقة البرزخ لها ذاكرة ممتازة[12]!
واليوم تُصرف بلايين الدولارات على تنظيف مصبات الأنهار في الولايات المتحدة الأمريكية. ويقول الباحثون إنهم كانوا يجهلون التأثير السيئ للنفايات الصناعية والملوثات على هذه المناطق الحساسة بيئياً، ولو أن هؤلاء العلماء علموا بأهمية هذه المناطق لكانوا أكثر حفاظاً عليها.
تعتبر منطقة مصبات الأنهار في البحار من أجمل المناطق وأكثرها غنى وقد نشأت كثير من الحضارات حولها، ومنطقة المصب تكون عادة محاطة بالغابات والنباتات المنوعة من أطرافها الثلاثة ومفتوحة على البحر حيث يختلط الماء العذب بالماء المالح. إن منطقة المصبات لها خصائص وميزات رائعة، فكل شيء في هذه البيئة المميزة يختلف عما يحيط بها، فهي بيئة محفوظة ومحجورة وممنوعة من أي كائنات حية أخرى غير الكائنات التي تعودت على العيش فيها، ولها خصائص فيزيائية وكيميائية أيضاً تتميز بها عن غيرها من المناطق.
مياه عذبة في قاع البحر!
لقد اكتشف العلماء وجود ينابيع عذبة تتدفق داخل المحيطات والبحار مصدرها المياه الجوفية المختزنة في طبقات الأرض. ويمكن القول بأن عملية امتزاج الماء المالح بالماء العذب لا تقتصر على الأنهار بل هنالك مياه مخزنة تحت الأرض أيضاً تتدفق وتمتزج بمياه البحر، ويحدث اختلاط واضطراب واختلاف في درجات الملوحة والحرارة، وبالتالي فإن التعبير القرآني (مرج البحرين) ينطبق على هذه الحالة.
وتبلغ كمية الماء العذب المختزن تحت الأرض كمياه جوفية 23.4 مليون كيلو متر مكعب، بينما تبلغ كمية الماء الموجودة في جميع الأنهار في العالم 2.12 ألف كيلو متر مكعب فقط، ويبلغ حجم الماء في البحيرات العذبة 91 ألف كيلو متر مكعب، ويمكن القول بأن حجم الماء المختزن تحت سطح الأرض أكبر من حجم الماء في الأنهار بـ 250 ضعفاً[13].
رسم يوضح دورة امتزاج الماء العذب بالماء المالح، فالأنهار والينابيع والمياه الجوفية تشارك في هذه العملية مع ماء البحر، ولذلك نجد البيان الإلهي يعبر تعبيراً دقيقاً (مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج)، وفي تفسير ابن كثير كما رأينا فإن البحر العذب هو الأنهار والآبار أو المياه الجوفية والينابيع، وجميع هذه المياه تمتزج وتختلط بماء البحر، فانظر إلى دقة كلام الله تعالى[14]!
صورة بالأشعة تحت الحمراء تظهر تدفق المياه العذبة من قاع خليج Waquoit في سبتمبر 2002، والدوائر السوداء التي تحيط بالمناطق الصفراء اللامعة هي المناطق التي تتدفق فيها المياه العذبة من القاع الرملي وتختلط مع مياه الخليج الدافئة[15]. (WHOI).
وجه الإعجاز 1- في قوله تعالى (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) حديث عن العمليات الفيزيائية التي تحصل فعلاً في منطقة الالتقاء بين النهر والبحر، وهي عمليات خلط مستمر وذهاب وإياب للماء، وهذا هو تماماً ما تعنيه هذه الكلمة.
2- نلاحظ أن الله تعالى قال: (مرج البحرين) ولم يقل (مرج النهر والبحر)، لأن عملية المرج تتم مع الأنهار ومع المياه العذبة المختزنة في الأرض، والتي تتدفق من قاع المحيطات، وهذه المياه هي بحر أيضاً، ولكنه بحر عذب لا نراه، ولكن الله يراه وقد حدثنا عنه قبل علماء أمريكا بقرون كثيرة!
3- إن كلمة (مرج) هي الكلمة الدقيقة للتعبير عن طبيعة ما يجري في منطقة اختلاط الماء العذب بالماء المالح، بينما نجد العلماء يستخدمون عدة كلمات للتعبير عن هذه الظاهرة مثل (خلط، تمازج، حركة، اضطراب، اختلاف...)، وجميع هذه المعاني تحققها الكلمة القرآنية، فسبحان من أنزل هذه الكلمة!
4- في قوله تعالى (وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا) حديث عن وجود برزخ، وهو منطقة تفصل بين ماء النهر وماء البحر، وهذه المنطقة أو هذا البرزخ هو ما يسميه العلماء بمنطقة المصب أو Estuary . طبعاً هذه المنطقة تتشكل بسبب القوانين التي أودعها الله في الماء، وتسمى بقوانين ميكانيك السوائل، أي أن القرآن قد قرر حقيقة علمية قبل أن يكتشفها العلماء بقرون طويلة، وهذا سبق قرآني في علم المياه.
5- في قوله تعالى (وَحِجْرًا مَحْجُورًا)، إشارة إلى أن هذه المنطقة مميزة وذات خصائص محددة تختلف عما يحيط بها من بحر أو نهر، وفيها كائنات محددة تختلف أيضاً عن كائنات البحر وكائنات النهر، وهذه المنطقة لا تسمح للماء المالح أن يطغى على الماء العذب، ولذلك فهي كالحجرة المنيعة والمغلقة، وهذا ما يقوله العلماء اليوم.
6- في قوله تعالى: (هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ) حديث عن الاختلاف الكبير في درجة الملوحة بين ماء النهر وماء البحر، وهذا ما نراه فعلاً، فماء النهر يكاد يخلو من الملح إلا بنسبة ضئيلة جداً، بينما نجد أن المتر المكعب من ماء البحر يحوي 35 كيلو غرام من الملح! ولو أن القرآن وصف ماء النهر بالعذب فقط لكان هنالك خطأ علمي، إذ أن ماء النهر ليس عذباً مئة بالمئة، إنما هنالك بعض الأملاح والمعادن والمواد الأخرى التي تعطي هذا الماء طعماً مستساغاً، ولذلك قال تعالى (عَذْبٌ فُرَاتٌ).
الأمر ذاته ينطبق على ماء البحر، فلم يقل القرآن (وهذا ملح)، ولو قال ذلك لكان هنالك خطأ علمي أيضاً، لأن جميع المياه في الأرض تحوي شيئاً من الأملاح بنسبة أو بأخرى. ولذلك قال (وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ) كإشارة إلى الملوحة الزائدة، وهذا التعبير دقيق من الناحية العلمية.
7- تعتبر منطقة المصبات من أكثر المناطق حساسية وذات أهمية بيئية كبيرة، وهي لذلك تستحق الذكر كنعمة من نعم الله علينا، حتى إن الكثير من الحضارات ازدهرت في مناطق المصبات، مثل دلتا النيل، والمنطقة بين نهر دجلة والفرات، ونهر التايمز في مدينة لندن، ونهر هيدسون في مدينة نيويورك[16]. وإن القرآن عندما يتحدث عن هذه المنطقة إنما يؤكد أهميتها وتميزها، مع العلم أن هذه المعلومات لم تكن متوافرة لإنسان يعيش في صحراء لا أنهار فيها ولا بحار، ومن غير الممكن لبشر أن يتحدث عن هذه المناطق بدقة مذهلة لو لم يكن رسولاً من عند الله تعالى! فيا ليت علماء الغرب يقرأون القرآن ويتدبّرونه، ليستفيدوا من هذه الحقائق في الوصول إلى معرفة الله تعالى والإيمان به. ويا ليتنا نطور أنفسنا من الناحية العلمية ونسبقهم لهذه الاكتشافات!
سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا