وكان هناك تمييز بشع ضدهم فى أوروبا، ولكن لا تفرض علىّ رقم الستة ملايين. فعلى سبيل المثال ضغطوا ضغوطا شديدة على بابا الفاتيكان، وهو يزور إسرائيل، لكى يقر برقم الستة ملايين، ولكنه رفض ذلك بشكل قاطع، واكتفى بعبارة «ملايين». الرقم يناقش فى أنحاء العالم، ولا يحتاج الأمر إلى فلسفة، فآخر إحصائيات عصبة الأمم قبل الحرب العالمية الثانية تقول إن عدد اليهود فى العالم 11 مليونا، وبعد نهاية الحرب، تصدر الأمم المتحدة عام 1947 تقريرا يقدر عدد اليهود فى العالم فى ذلك العام بـ 12 مليونا. هذه الأرقام أوردها منذ أكثر من أربعين سنة محققون وكتاب معروفون. من الممكن تماما، فى تقديرى، أن نقول إن مئات الآلاف من اليهود راحوا ضحايا المحرقة، وهذا كف للحديث عن مأساة إنسانية كبرى، ولكن أن تصر على أن تفرض علىّ رقم الستة ملايين فذلك لا لزوم له. لا أريد أن أتوقف عند هذه النقطة كثيرا، ولكن لا أجد داعيا لأن يفرض على هذا الرقم هنا فى القاهرة، وهو لم يتمكن من ذلك مع البابا فى إسرائيل. ثم إن الخطاب ممتلئ بالتناقضات، وتجد فيه الشىء ونقيضه. شخص واحد صاغه فى النهاية، ولكن 38 أو 40 شخصا شاركوا فى إنتاجه. وعلى سبيل المثال، يقول لى إن الشعب اليهودى عانى من ألمانيا النازية، وأن ألمانيا النازية دفعت ثمن ذلك. صحيح، ضربت ودمرت ودفعت تعويضات. حسنا، ولكن ماذا عن الذين ارتكبوا المحارق ضد الفلسطينيين. تقول لى تعاملوا معهم، لا يعاقبوا ولا يدفعوا شيئا. أليس غريبا أن الذين اضطهدوا اليهود، وهم ألمانيا النازية، تمت معاقبتهم، أما الذين اضطهدوا الفلسطينيين، وتسببوا فى عذابهم، كما جاء فى الخطاب، فتقول لى تعامل معهم، تعامل مع من صنعوا هذا العذاب. حسنا، يمكننى أن أتعامل معهم، ولكن يجب أن توضع قواعد جادة، لا تطلب منى نسيان كل شىء والتنازل عن كل حق. الرسالة التى تم توجيهها من تركيا لم تكن كافية، ولذلك لزم أن تلحق بها رسالة أخرى أكثر تحديدا ومن مكان مهيأ أكثر لهذا النوع من الرسائل. فما شاهدناه فى الأيام الأخيرة كان فى الحقيقة هو مهرجان الترويج الثالث للسياسة الأمريكية. كان مهرجان الترويج الأول فى 1974، وجاء نيكسون إلى القاهرة لتغطية أمرين، أولهما هو فضيحة ووترجيت، وثانيهما التحول الجذرى الذى جرى وقتها فى السياسة والتوجهات المصرية. وجاء المهرجان الثانى فى مؤتمر مدريد، وشاركنا فيه بنشاط بالغ، واعتبرناه هو الحل، وأقنعنا كل المترددين بالذهاب، وضغطنا على الجميع. وكان المقصود من المهرجان التغطية على ما جرى قبله من تدمير للعراق، وإعادته إلى العصر الحجرى، على حد قولهم، والهدف الثانى أن يفتح الباب أمام إعادة انتخاب بوش الأب لولاية ثانية، وهو ما لم ينجح فيه. المهرجان الثالث هو ما جرى هذه الأيام، ونحن إذا ما عملنا على فرز ما هو متعلق بالتاريخ، وما هو متعلق بالدبلوماسية العامة وبالعلاقات العامة، وتنحيتها جانبا لرأينا أين هو بالضبط التغيير الذى يتحدثون عنه. هناك وعد بالتغيير، ولكن لا يمكنك أن تتحدث عن تغيير دون أن توضح لى ما هى آفاق ذلك التغيير. يقول بدأنا صفحة جديدة فى العلاقات، ولكن صفحة جديدة لا يمكن أن تلغى كل ما فات، تتحدث عن صفحة جديدة فى العلاقات، والقضايا كلها مستمرة، وتطالبنى فى الوقت نفسه بأن أنسى كل ما عانيته، وكل ما اتفق عليه، وأن أبدأ بداية جديدة، بداية لماذا بالضبط؟ يلفت نظرى توقيت الخطاب، وهذا مهم جدا.. ليس هذا خطابا موجها للعالم الإسلامى، وإنما هو فى الحقيقة موجه لجزء من العالم العربى، موجه لتغطية المعتدلين فى العالم العربى، وتحديدا مصر والسعودية والأردن، لكى يتولوا القيام بمهام معينة فى المرحلة القادمة. توقيت الخطاب مثير للانتباه، فهناك أمامى انتخابات فى لبنان وانتخابات فى إيران، وبداية معركة الجنرال دايتون فى فلسطين. الجنرال دايتون هو الرجل الذى يقوم بتدريب قوات فتح على القتال، وقد بدأت بالفعل معركة الاحتكاك بالمعارضة الفلسطينية بهدف تصفيتها أو تحجيمها. دايتون هو جنرال الحرب الأهلية الفلسطينية، ولاحظ أنه عين مساعدا لجورج ميتشيل، وهذا أمر غريب جدا. ولدايتون تصريح غريب، قال فيه إن قوات فتح التى قام بتدريبها لابد من إيجاد مهمة لها، إن لم تحل القضية الفلسطينية، فقال: نحن بنينا وحوشا مقاتلة، وسوف نراها تقاتل إسرائيل، سوف نراها فى المستعمرات تقاتل الإسرائيليين. يقولون إن أوباما قال كلاما مهما فى شأن القدس. لم يقل أى شىء جديد فيما يتعلق بالقدس، وإنما كرر ما قيل كثيرا من قبل حول لقاء أبناء إبراهيم. ففيما يتعلق بنا قال شعرا، وفيما يتعلق بإسرائيل تحدث بوضوح عن صداقة دائمة لا تهتز، وعن رقم لا يقبل المناقشة أو الجدل عن 6 ملايين يهودى ضحايا الهولوكوست. كل هذه أمور جديرة بمجرد التأمل على الأقل.