إن هذه الأمة لن تنتصر على الأعداء حتى ترجع إلى ما كان عليه السلف رضوان الله عليهم، وإن مما يعين على شحذ الهمم، وقوة الحق، والانتصار لهذا الدين- النظر في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وصحابته الكرام، وقوتهم في الصدع بالحق، وجرأتهم في الدعوة إلى الله وصبرهم على الأذى فيه، وقد تناول الشيخ في هذا الدرس سيرة صحابي جليل ألا وهو سعد بن معاذ، ووقف في سيرته على بعض العبر والعظات المستفادة
سبب اختيار الحديث عن سعد بن معاذ
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على الصراط المستقيم، ليله كنهاره، لا يزيغ عنه إلا هالك، فصلاة ربي وسلامه عليه إلى يوم الدين. أيها الإخوة: إن لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم حقاً عظيماً علينا، فهم أبر هذه الأمة نفوساً، وألينها قلوباً وأرقها، حملوا لواء الدعوة والجهاد حتى انتشر الإسلام في الأرض، وبنوا تلك القاعدة العظيمة للإسلام والمسلمين في أرجاء العالم، وهم المشكاة التي انبثق منها نور الهدى، وهم القدوة الذين نقلوا إلينا حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم.. نقلوا إلينا أحاديثه، فكل حديث نسمعه فنحن مدينون فيه لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ديناً عظيماً، لأنهم هم الرواة العدول الذين نقلوا لنا هذه الأحاديث، فلو لم ينقلوها فعمن كان سنعرف سيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؟ رضي الله عنهم وأرضاهم، تلك الصفوة المختارة من عباد الله، التي خصها الله تعالى بتلك الأفضلية العظيمة التي لو أنفق أحدنا مثل أحد ذهباً ما بلغ ملء كف أحدهم أو نصيفه؛ لأن الله تعالى قد خصهم بهذه العناية العظيمة، واصطفاهم ليكونوا جند رسوله صلى الله عليه وسلم، يسيرون معه على الحق، ويطبقونه ويتخذونه ويعتمدونه شرعةً ومنهاجاً. ولهذا كان لا بد من العناية بدراسة سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم هم القدوة التي تحتذى، وهم الذين ينيرون لنا الدرب في ظلام الجاهلية، وهم الذين إذا اقتدينا بهم فنصل إلى الفوز بجنات النعيم، ونحن اليوم مع موعد مع صحابي جليل من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذلكم الرجل الفذ الذي هو سعد بن معاذ رضي الله تعالى عنه، ولا أخفي عليكم أيها الإخوة فقد تتساءلون: ما الذي دفعني لاختيار حياة هذا الرجل لعرضها في مثل هذا المقام؟ والحقيقة أن السبب كان حديثاً من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، شيءٌ إذا دققت النظر فيه لاندهشت جداً، ولذهلت تماماً وأنت تتأمل في ذلك الحديث، إنه الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه: (اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ)، وقال عن سعد بن معاذ : (هو الذي اهتز له عرش الرحمن سبحانه وتعالى) فإذا علمنا أن السماوات السبع، والأرضين السبع بالنسبة للكرسي -وليس للعرش- مثل الحلقة التي ألقيت في صحراء من الأرض، هذه السماوات كلها بنجومها وأفلاكها، والسبع الطباق، وما فيها من المخلوقات، وهذه الأرضين السبع كلها بالنسبة للكرسي مثل حلقة من حديد ألقيت في فلاة، وفضل العرش على الكرسي، نسبة العرش إلى الكرسي كنسبة الفلاة إلى تلك الحلقة. تأمل هذا المخلوق العظيم من مخلوقات الله عز وجل، هذا العرش العظيم الذي هذه صفته ونسبته اهتز لوفاة رجل من الناس إنه سعد بن معاذ ، فلماذا اهتز العرش لوفاة سعد بن معاذ ؟ هذا ما سنحاول الإجابة على شيء منه بعون الله وتوفيقه.......
قصة إسلام سعد بن معاذ
فأما سعد بن معاذ فكما يقول مؤرخ الإسلام الحافظ الذهبي رحمه الله: فإنه السيد الكبير الشهيد أبو عمرو سعد بن معاذ بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهل الأنصاري الأوسي الأشهلي البدري. هذا الذي قال الشاعر تعظيماً لشأنه، في رفعة الإسلام:
فإن يُسلم السعدان يُصبح محمد بـمكة لا يخشى خلاف المخالف
كان الشاعر يتوقع ويتمنى أن يسلم السعدان: سعد بن عبادة و سعد بن معاذ. قال الذهبي رحمه الله: أسلم سعد بن معاذ على يد مصعب بن عمير، وكانت وفاة هذا الرجل في أواخر شهر ذي القعدة من سنة خمس للهجرة، وعندما نتتبع الروايات عن حياة سعد بن معاذ، فإن هناك مشكلة تواجه الذين يتتبعون الأحاديث في سير الصحابة؛ لأنك ستجد كثيراً من الأحاديث من رواية ابن إسحاق مثلاً، أو ليس لها سند وهي مشهورة في الكتب، فنحن سنعتمد في رواياتنا للأحاديث على الصحيح منها، مما حققه لنا أهل العلم بالحديث. ولكن هناك بعض المواقف قد لا يجد فيها الباحث حديثاً صحيحاً مع شهرتها في كتب السير والمغازي، وهنا أذكر لكم ما ذكره شيخ المحدثين في هذا العصر، الشيخ/ ناصر حفظه الله، يقول لما سئل عن حكم استخراج الفوائد التربوية والعبر والعظات من مثل هذه الأسانيد التي قد تكون مرسلة أو ضعيفة؟ فقال: الشرط ألا يستخرج منها حكم شرعي، لأن الأحكام الشرعية أو ما كان في العقيدة فإنه لا يؤخذ إلا من الحديث الصحيح، أما استخراج العظات والعبر، فإنها تتفاوت بحسب الأحاديث، فإن بيَّن المتكلم ضعف الحديث فإنه لا بأس بعد ذلك أن يتكلم بما شاء، ونحن سنمر في بداية الحديث عن هذا الصحابي بقصة إسلامه، وهي قصة مشهورة رواها ابن إسحاق رحمه الله تعالى في حديثٍ مرسل، وكذلك رواها أبو نعيم في دلائل النبوة وبعض من ناقشتهم في شأن هذين الحديثين، قال: إن هذا الحديث يتقوى، وبعضهم قال: لا يتقوى، وعموماً فإن هذه القصة قد رويت عند ابن إسحاق وأبي نعيم بأسانيد مرسلة، فلعله يعتضد بعضها ببعض، ونحن من خلال كلامنا عن هذه الرواية لن نتطرق إلى الأحكام الشرعية، وإنما سوف نتطرق إلى بعض العظات والفوائد، فيقول ابن إسحاق رحمه الله تعالى بعد ما ذكر قصة بيعة أهل العقبة من الأنصار للرسول صلى الله عليه وسلم: (بعث النبي صلى الله عليه وسلم مصعب إلى الأنصار لدعوتهم -أناس من أهل المدينة بايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم، واستجابوا بعد أن رفضته سائر القبائل، وبعد أن امتنع عليه جميع العرب- قال: ثم بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ابعث إلينا رجلاً من قِبلك فيدعو الناس بكتاب الله فإنه أدنى أن يتبع). فهؤلاء أهل المدينة يطلبون من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليهم رجلاً يدعوهم.. بماذا يدعوهم؟ يدعوهم بكتاب الله، فإنه أدنى أن يتبع. كان الوحي في نفوس الصحابة له منـزلة عظيمة، وكانوا يقدرونه تقديراً كبيراً، فلذلك طلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلم رجلاً شخصية يدعو الناس في المدينة.. يدعوهم بأي شيء؟ بالقرآن الكريم؛ لأنه أحرى أن يتبع، فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير أخا بني عبد الدار. أيها الإخوة: إذا نظرنا إلى قيمة القرآن في نفوس الصحابة، وتقديرهم له لوجدت البون شاسعاً جداً بين نظرة المسلمين اليوم إلى القرآن الكريم وبين نظرة أولئك الصحابة.. أولئك الصحابة كانوا يأخذون القرآن الكريم معيناً أساسياً للتربية الإسلامية الصحيحة. كانوا يحتكمون إليه، ويرجعون فيما شجر بينهم من الخلاف إلى القرآن الكريم.. كانوا يأخذونه عشراً عشراً لا يتجاوزون العشر حتى يتعلموها ويعملوا بها.. كانوا يجلون هذا القرآن، أما المسلمون اليوم فإنك تجدهم إذا اعتنى أحدهم بالقرآن فإنه يعتني به كمصحف يضعه في سيارته كي لا تتعرض سيارته لحادثٍ، أو يضعه فوق رف من الرفوف ليزين به بيته، أو يتبرك به، أو تعلقه بعض الجهلة من النساء في أعناق أولادهن وأطفالهن ليحفظ الأولاد والأطفال من العين أو الحسد بزعمهم، هذا هو مقدار القرآن اليوم في نفوس الناس، إلا من رحم الله من بقايا الطائفة المنصورة الذين اعتمدوا كتاب الله شرعةً ومنهاجاً، وأخذوا منه واستقوا وانتهلوا، يعلمون الناس منه ويتعلمون، وهكذا يجب أن يكون القرآن، يجب أن نُقْبِل على كتاب الله عز وجل أكثر من أي كتاب آخر. كثير من الناس اليوم يقرءون كتباً كثيرة، وقد يتأثرون بها أكثر مما يتأثرون من القرآن، وتجد أحدهم يبكي في الدعاء في الصلاة ما لا يبكي إذا تليت عليه آيات القرآن، بينما كان الصحابة يبكون وينشجون وهم يستمعون إلى القرآن، وكانت آيات من كتاب الله سبباً في هداية قطاع طرق ولصوص وفسقة ومجرمين في الصدر الأول من الإسلام. آيات من كتاب الله تهز مشاعر الناس هزاً لتخرجهم من الظلمات إلى النور، هذا الكتاب العزيز الذي جُهلت قيمته من قبل أبناء المسلمين اليوم لا بد من العودة إليه عودة تبنٍّ لما فيه من الأحكام والمواقف، واستفادةٍ واتعاظٍ بما فيه من العبر والمواعظ، وسلوك سبيل التربية لما فيه من المواقف الإيمانية التي تحدد موقف المسلم من الأحداث الجارية، والكلام في هذا طويل، ويكفي هنا هذه التذكرة، نسأل الله أن ينفعنا وإياكم بهدي كتابه. ......
موقف أسيد بن حضير مع مصعب بن عمير وأسعد بن زرارة
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الأنصار مصعب بن عمير أخا بني عبد الدار، أرسل إليهم رجلاً واحداً، سنرى الآن في طيات هذه القصة ماذا سيفعل هذا الرجل، أرسل رجلاً واحداً إلى مدينة بأكملها، ولذلك كما قال ابن القيم رحمه الله في الزاد: و مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم: فتحت بالقرآن ولم تفتح بالسيف. القرآن مع رجل يعرف قيمته يفتح مدينة بأكملها، لا بد من تقدير هذا القرآن، وتقدير الرجال الأفذاذ الذين يحملون هذه الآيات، ليبلغوا الناس ما أنزل إليهم من ربهم، فنـزل في بني غنم على أسعد بن زرارة فجعل يدعو الناس سراً فيفشو الإسلام ويكثر أهله، وهم في ذلك مستخفين بدعائهم، ثم إن أسعد بن زرارة خرج بـمصعب بن عمير يريد به دار بني عبد الأشهل، وهم قوم سعد بن معاذ وكان رئيسهم، وكان سعد بن معاذ ابن خالة أسعد بن زرارة الذي أسلم مع مصعب بن عمير فكان مرافقاً له في رحلته الدعوية، فدخل به حائطاً من حوائط بني غفر على بئر يقال لها: بئر مرق، فجلسا في الحائط، واجتمع إليهما رجال ممن أسلموا، و سعد بن معاذ و أسيد بن الحضير يومئذٍ سيدا قومهما، وكانا على الشرك، سعد بن معاذ كان رجلاً مشركاً جاهلياً لا يعرف الله عز وجل، ويخوض في أوحال الجاهلية كما يخوض غيره. كيف سيقوم هذا الرجل إلى المقام الذي اهتز له عرش الرحمن؟ وكلاهما مشرك على دين قومه، فلما سمعا به قال سعد لـأسيد : لا أبا لك! انطلق إلى هذين الرجلين اللذين قد أتيا دارينا ليسفها ضعفاءنا فانهرهما وانههما أن يأتيا دارينا، فإنه لولا أسعد بن زرارة مني حيث قد علمت كفيتك ذلك، هو ابن خالتي ولا أجد عليه مقدماً. يقول سعد بن معاذ لـأسيد بن حضير : هذا أسعد بن زرارة ابن خالتي، وله مكانة في نفسي لا أستطيع أن آتي إليه وأنهره وأعنفه، فاذهب أنت واكفني هذه المئونة، فأخذ أسيد بن حضير حربته ثم أقبل إليهما فلما رآه أسعد بن زرارة قال لـمصعب : هذا سيد قومه وقد جاءك، فاصدق الله فيه. أخلص لله وأنت تنصح هذا الرجل لأنه سيد قومه؛ فإذا هداه الله هدى به قوماً بأكملهم على يد هذا الرجل، انظروا -أيها الإخوة- كيف يتواصى الدعاة فيما بينهم، يتواصون بالإخلاص لأنه عصب الدعوة، وهو السلاح الفعال الذي يفتح الله به مغاليق القلوب، فيدخل نور الإيمان.. إخلاص الداعية هو سلاحه الأعظم وهو الواجب وهو يواجه الناس، وكثير من الدعاة الذين لا ينقصهم علم ولا جرأة ولا قوة في الشخصية أو جودة في أسلوب العرض يفشلون فشلاً ذريعاً، لماذا؟ لأنهم يفتقدون هذا العنصر الأساسي في دعوتهم إلى الله وهو عنصر الإخلاص، فلذلك يقول أسعد بن زرارة لـمصعب بن عمير : هذا سيد قومه وقد جاءك، فاصدق الله فيه، قل كلمة الحق ولا تخف، قال مصعب : إن يجلس أكلمه، قال: فوقف عليهما متشتماً يشتم، فقال: ما جاء بكما إلينا؟ تسفهان ضعفاءنا، اعتزلانا إن كان لكما بأنفسكما حاجة. قال ابن إسحاق: فقال له مصعب : أوتجلس فتسمع؟ فإن رضيت أمراً قبلته، وإن كرهته كففنا عنك ما تكره، قال: أنصفت، قال: ثم ركز حربته وجلس إليهما، فكلمه مصعب بالإسلام وقرأ عليه القرآن، فقال فيما يذكر عنهما: والله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم من إشراقته وتهلله، ثم قال: ما أحسن هذا وأجمله! كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟ قال له: تغتسل، فتطهر، وتطهر ثوبيك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلي، فقام فاغتسل، وطهر ثوبيه، وتشهد شهادة الحق، ثم قام فركع ركعتين. ثم قال لهما: إن ورائي رجلاً إن اتبعكما لم يتخلف أحد من قومه، وسأرسله إليكما الآن، سعد بن معاذ . من المدهش -أيها الإخوة- أن ترى هذا الصحابي عندما دخل في الإسلام أول ما فهم كان من بدائيات وبدهيات الفهم، أن يفهم أنه لا بد أن يدعو للإسلام، ولا بد أن يشارك في الدعوة إلى الله، ولا بد أن يأتي لـمصعب برجل آخر يفتح الله قلبه؛ حتى يهدي الله القوم على يدي هذا الرجل، رجل من المشركين يشهد شهادة الحق، ويصلي ركعتين، ثم يساهم مباشرة في الدعوة إلى الله، كيف كان الصحابة الأوائل يفهمون الدين؟ كانوا يفهمونه فهماً يختلف كثيراً عن فهم المسلمين اليوم لدين الإسلام. كثيرٌ من المسلمين اليوم لا يفهمون من الدين إلا تلك الركيعات التي يركعونها بغير خشوع في المساجد أو في البيوت، ويخرجونها في كثير من الأحيان عن وقتها، أصبح الدين مجموعة من الرموز التي تؤدى بغير خشوع لله وخشية، فقد الدين حركيته واندفاعيته في قلوب كثير من المسلمين. إن فقه الدعوة اليوم في خطر عظيم من تلك الانحرافات الكبيرة التي تعج بها أذهان المسلمين وقلوبهم، لا بد من إحياء فقه الدعوة في نفوس الناس؛ حتى ينطلقوا بهذا الدين إلى الناس كافة.. لا بد من إزالة هذا الجمود الذي سيطر على مشاعر المسلمين فجعلها متجمدة لا تتحرك ولا تحس فيها دفئاً وحرارة، لا بد أن تنطلق لتصدع بكلمة الحق مبلغة تلك القلوب الخاوية، فقد يفتح الله عليهم، فيدخل الناس في دين الله أفواجاً