السقوط السهل
وبعدما خلا جمال إلى نفسه تساءل عما يدور حوله، وتذكر الدورة الإرشادية التي تلقاها في مصر قبل سفره... وما قيل له عن أساليب المخابرات الإسرائيلية المختلفة في استقطاب المصريين بالخارج... والحيل المموهة الذكية – التي تبدو بريئة – لجرهم إلى التعاون معهم... بدعوى العمل على مساعدتهم .. وبشعارات زائفة رنانة يعملون على إزالة حاجز الخوف من التعامل معهم... وما كان قصدهم في النهاية إلا الإيقاع بضعاف النفوس الذين تواجههم ظروف صعبة في الخارج.
وقطع تفكيره اتصال من شخص لا يعرفه اسمه "يوسف" أبلغه بأنه مكلف بإيجاد عمل له.
فرح جمال كثيراً بذلك الضيف البشوش ودار بينهما حديث يغلفه الود عن الحياة والدين والطبيعة وتربية الكلاب.. ثم تطرق يوسف إلى مشكلة الشرق الأوسط، والسلام الذي يجب أن يسود المنطقة... وحقوق الجار التي أوصى بها الرسول صلى الله عليه وسلم.
ولم اعرف منه أن له علاقة خطبة بفتاة في مصر وأطلع على صورتها... ضحك ضابط الموساد نم تواضع ملامحها وقال له:
Ø إنك في اليونان فلماذا لا تستمتع كما يحلو لك؟
وأخذه إلى سهرة لم يصادفها من قبل. وعلى الباب الخارجي للنادي الليلي وقفت سيدة عجوز تمسك بعدسة نظارة ذات عين واحد تستقبل الزوار بحفاوة كبيرة ..
وعندما رأت جمال حسنين هتفت في سعادة قائلة: - أوه أيها المخلص... ألا زلت تتذكرني؟!
وهي تنظر باندهاش إلى الضابط:
ضحك جمال بينما يدلف من الباب الداخلي وهو يقسم بأنه لم ير المرأة من قبل.
وبعد سهرة جميلة عاد جمال إلى حجرته ترافقه فتاة لعوب استطاعت على مدى يومين أن تستنزف دولاراته... وتركته خاوي الوفاض في بلاد الغربة... يطوف ضباط المخابرات الإسرائيلية من حوله ويخططون لاصطياده.
وفي قمة محنته ذهب إليه بالفندق شخص آخر اسمه إبراهيم... وذكر له بأنه صديق يوسف وأنه قرأ استمارة بياناته ومعجب جداً به.
كان إبراهيم ضابط مخابرات ماهر... استطاع التعرف على نقطة الضعف التي يعاني منها جمال... فركز عليها جيداً... واستغل جهله بالسياسة والتاريخ وأخذ يلقي على مسامعه الأكاذيب والمفتريات عن مشكلة اليهود ... وفي خلال المسجل بينهما، واستطاع أن ينتزع منه اعترافاً ضمنياً بحق اليهود في فلسطين... ثم أخذ يضغط على مشكلة الأزمة الاقتصادية التي تعاني مصر منها... بدليل تواجده في اليونان بحثاً عن عمل ليتمكن من الزواج، وأرجع الضابط هذه الأزمة إلى حالة التأهب الدائم للحرب التي تدمر خطط مصر للتنمية.
ولأنه أحمق غرير ... اقتنع جمال حسنين بآراء الضابط الذي شحنه نفسياً ومعنوياً .. ووصل به إلى المدى المطلوب في الاندفاع والتهور وسب النظام في مصر وانتقد الحياة بها.
كان الطرق على الحديد الساخن أسهل الطرق لتشكيله... وأمام حالة الضعف التي وصل اليها جمال فلا مال لديه ولا حصانة من وطنية .. بالإضافة إلى كلمات متناثرة فهم منها أن له صوراً عارية مع الفتاة الداعرة... أمور كلها هيأت مناخاً مناسباً لتجنيده. خاصة بعدما أقنعه ضابط الموساد بأن الجاسوس الذي يسقط في أيدي المخابرات المصرية... لا بد لهم من مبادلته في صفقة سرية بواسطة الصليب الأحمر الدولي أو الدول الصديقة، وعدد له أسماء كثيرة لجواسيس مصريين تمت مبادلتهم... ويعيشون في إسرائيل في فيلات فاخرة، وجرى سحب أسرهم من مصر تباعاً. هكذا كانوا يقنعونه ويضيقون عليه الخناق فيجد صعوبة في التفكير أو الفرار. وسقط جمال حسنين في قبضة الموساد.
وفي شقة مجهزة بكل أدوات الرفاهية .. أقام الخائن برفقة ضابط الموساد ليتعاطى شراب الخيانة وليتعمل مبادئ الجاسوسية.
ولأنه لم يلتحق بالقوات المسلحة فقد دربوه على كيفية تمييز الأسلحة المختلفة بواسطة عرض أفلام عسكرية وأسلحة.. وعقد اختبارات له لبيان مدى استيعابه.
ولكونه يعمل في مصلحة المساحة، فقد كانت لديه خبرة كبيرة في وصف المباني والمنشآت ورسم الخرائط المساحية، وتقدير المسافات والارتفاعات، وبالتالي رسم الأشكال المختلفة وكل مظاهر الحياة التي تصادفه.
ولم تكد تمر أربعة أسابيع إلا وأنهى جمال حسنين الدورة التدريبية ببراعة ... وتخرج من تحت يد ضابط الموساد جاسوساً خبيراً، وخائناً مخلصاً لإسرائيل. الرسالة الوحيدة
كان – ضابط الموساد – إبراهيم هو المسؤول عن تلميذه النجيب. وعلى عاتقه تقع مسؤولية توجيهه ومتابعته. ويلزم لذلك ربط علاقة إنسانية قوية بينه وبين الجاسوس.
وفي أمسية سمر لاحظ شروده وقلقه، وحاول جاهداً مساعدته حتى لا تتوقف مراحل خيانته، فصارحه جمال بمدى تعقله الشديد بسماح، وخوفه من عودته خاوياً فتضيع منه. فطمأنه إبراهيم وأمده بألف دولار مكافأة، فضلاً عن راتب شهري قدره مائتي دولار، ومكافأة أخرى "50" دولاراً عن كل رسالة تحمل معلومات قيمة يرسل بها إلى روما لاسم "كاستالا يوستالي" ص. ب. 117.
وأمضى الخائن التعس في بيريه أربعة أشهر حتى لا يثير الشكوك بالأموال التي معه، ثم أعد حقيبته وسافر بالطائرة إلى القاهرة يحمل فستان الزفاف لعروسه هدية من المخابرات الإسرائيلية.
كان عجولاً جداً... إذ لم ينتظر حتى تزف اليه حبيبته، بل شرع في الحال في كتابة رسالة عاجلة – بدون حبر سري – إلى صديقه الوهيم يوستالي – يخبره فيها بوصوله سالماً وزواجه قريباً.
وبعدها عمد إلى زيارة أقاربه وأصدقائه من عسكريين ومدنيين وسؤالهم عن أحوال الجيش والحرب... وكان يسجل كل ما يصل اليه في مفكرة خاصة حتى جمع بعض المعلومات التي اعتبرها مهمة لإسرائيل... وأغلق عليه حجرةه وسطر – للمرة الأولى – رسالة بالحبر السري ... حوت ما جمعه من معلومات وأرسل بها إلى روما. وادعى أنه يحمل رسائل من أصدقاء في اليونان إلى ذويهم في الاسكندرية ودمياط والمنصورة ومرسى مطروح. وقام بزيارة لهذه المدن لعله يصادف ما يثير انتباهه من تحركات عسكرية ... أو تنقلات للأسلحة بواسطة القطارات أو سيارات النقل العملاقة.
كانت مصر في تلك الأثناء ... نوفمبر 1972 ... تعيش أوقاتاً عصيبة بسبب حالة اللاسلم واللاحرب التيت هيمنت على الطقس العام. وهناك حالة من القلق والتذمر تسود الشارع المصري يأساً من خطب الرئيس السادات التي لا تحمل أية نية للرد على الصلف الاسرائيلي المستفز، بل تفيض بالوعود الكاذبة بالحرب مما خلق شعوراً بالإحباط لدى الشعب.
وكانت المخابرات الإسرائيلية ترسل بجواسيسها الخونة .. لاستقصاء حالة الشعب والجيش ... ففي تلك المرحلة الحرجة كان الغليان العربي على أشده. خاصة وأن عمليات المقاومة الفلسطينية اتخذت مساراً آخر في مواجهة إسرائيل ... بعدما تقاعست دول المواجهة عن الإقدام على ضربها.
لذلك ... فقد كثفت إسرائيل من نشاطها التجسسي داخل الأراضي المصرية... لعلمها أن مصر هي زعيمة العرب وكبرى دول المواجهة التي حتماً ستثأر وتسترد سيناء.
ويقابل هذا التكثيف التجسسي جهداً متزايداً من المخابرات الحربية والمخابرات العامة المصرية .. لضبط إيقاع الأمن في الداخل والخارج... فسقط عدد كبير من الجواسيس ما قبل أكتوبر 1973... وكان من بينهم جمال حسنين الذين أرسل رسالته الوحيدة إلى مكتب الموساد في روما.
فبواسطة رجل المخابرات الذكي الذي يعمل رقيباً على البريد... اكتشف الكتابة بالحبر السري في الرسالة... وتبدأ على الفور مطاردة شرسة بين المخابرات المصرية والجاسوس في معركة سرية لا يشعر بها أحد .. وسباق محموم مع الزمن من أجل إلقاء القبض عليه.
وفي فترة وجيزة جداً .. سقط الخائن في الكمين الذي نصب له مساء يوم 29 نوفمبر 1972 أثناء نومه في هدوء .. يتنفس هواء مصر النقي ويملأ معدته طعامها وخيرها. ومن بين الأدلة الدامغة على تجسسه لصالح الموساد ضبطت المفكرة التي سجل بها معلومات جديدة قام بجمعها، وتقريراً عن زيارته لبعض المدن، ورسالة انتهى من كتابتها بالحبر السري كان ينوي إرسالها إلى روما في الصباح.
اصطحبوه إلى مبنى المخابرات لاستجوابه، واعترف مذهولاً بكل شيء في الحال. وأقر بأن حصيلة المعلومات التي جمعها كانت من معارفه وأقربائه... الذين كانوا يتحدثون أمامه بما يعرفونه من معلومات... وهم على ثقة به ولا يتصورون أن بينهم جاسوساً ينقل ما يتفوهون به إلى إسرائيل.
وأثناء محاكمته أخبروه بأن سماح زفت لآخر وسافر بها إلى الكويت، فسرت بشرايينه مرارة شديدة لا تعادل إحساسه بمرارة جرمه وخسة مسلكه.
وحكم عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة ... أي 25 عاماً... بين جدران السجن ليلاً وفي تكسير الحجارة نهاراً. فلولا ظروفه التي مر بها قبل وأثناء تجنيده... وقصر تجسسه على رسالة واحدة تحوي معلومات تافهة لكان نصيبه الاعدام.
ومنذ فترة قليلة مضت ... انتهت مدة عقوبته... وخرج من أبي زعبل وعمره يقارب الستين عاماً... مطأطأ الرأس منكس الهامة.
ترى .. هل كان أهله في استقباله على باب السجن كما نرى في الأفلام المصرية؟ أم أن والديه توفاهما الله غاضبين عليه، وانشغل اخوته في أعمالهم ونسوا أن لهم أخاً – جاسوساً – باعهم ذات يوم عندما باع وطنه.
فماذا حدث إذن؟ وأين سيعيش هذا الخائن بيننا؟ وهل لا زالت عنده الجرأة لكي ينتسب إلى هذا الوطن، ويقر بأنه مصري مات مرتين، مرة داخل السجن وأخرى خارجه عندما يجتر تاريخه..!!
أسئلة كثيرة بحاجة إلى إجابات مطولة... ولكن في النهاية لا بد لنا ألا ننسى أن النفس البشرية لازالت تمثل لغزاً غامضاً لم يكتشف بعد. ولا ينبغي أن نتعجب من تقلبات المشاعر والأحاسيس والنخوة.
ذلك إن عالم المخابرات والجاسوسية.. عالم لا تحكمه العواطف والعلاقات ولا يعرف الرحمة ولا المشاعر.. عالم مسعور لا يهب الصفاء..