احتج عمر حمودة بشدة على أوامر المخابرات الإسرائيلية، وحاول كثيراً ألا يوافق عليها ... إذ كيف له أن يعود إلى القاهرة وهو الهارب منها؟ وبعد جلسة عاصفة استسلم مرغماً. ففي عالم المخابرات والجاسوسية لا يتنصل عميل من مهام أوكلت إليه على الإطلاق، إذ ليس في الجاسوسية هرج ولا في عمل المخابرات هزل.
كان يدرك أنه وقع لا محالة بين فكي رحى لو هرب من هذه، طالته تلك، وكانت مهمته في القاهرة كبيرة ومتعددة. فقد كان المطلوب منه أن ينجح في القاهرة مثلما نجح في بيروت وحقق بها أكثر مما هو مطلوب منه فاستحق مكافأة سخية من المخابرات الإسرائيلية مع رضاء عن عمله.
ولكي ينجح في مهمة القاهرة... كان لا بد له من معرفة وثيقة بكل مجريات الأحداث داخل أسوار الجامعات، وأيضاً الحركات الطلابية التي نشطت كثيراً في مصر بزعامة طلاب عملوا على بث الروح الوطنية في نفوس زملائهم، وتحفيز الغالبية على الثورة على النظام القائم في مصر حينذاك بعدما كثرت الوعود البراقة بالانتقام من إسرائيل وضربها.
لقد كانت المنشورات الحماسية وقتها تجد مناخاً صحياً بين فئات الطلاب، فتنتشر وتؤثر، وبرزت المبادئ الناصرية الحماسية لدى الغالبية منهم، وكلما اعتقلت الداخلية النشطاء البارزين برز غيرهم، واتخذت المواجهات الطلابية مع الشرطة طابع الندية، وعم إحساس مرير بالذلة وبالعار. وضرورة الثأر من إسرائيل.
وفي وسط هذا الجو المشحون جاء الجاسوس الشاذ إلى مصر في أول أبريل 1973، يحمل عدة آلاف من الدولارات وبعض الحقائب الكبيرة المنتفخة .. تحوي هدايا لأسرته، وخاصة لأخيه عبد الحميد الطالب بالسنة الرابعة بكلية التربية جامعة عين شمس.
كان عبد الحميد يقيم بالمدينة الجامعية المجاورة لوزارة الحربية ولمسجد الزعيم جمال عبد الناصر ، ولكثرة تردده على شقيقه تعرف بالطبع على زملائه بالمدينة الجامعية، الذين أظهروا حفاوة كبيرة بشقيق زميلهم وأكرموه، وأنسوا إليه وإلى حكاياته عن تركيا و"بنات" استنبول حيث أفاض في سرد أكاذيب ملفقة عن علاقته بهن وسهولة تكوين الصداقات والعلاقات "الخاصة" معهن.
وبعد عدة زيارات للمدينة الجامعية للطلاب.. أحس الجاسوس بمدى التقارب الذي نشأ بينه وبين زملاء شقيقه عبد الحميد، فتطرق بعد ذلك إلى موضوعات سياسية أكثر "سخونة"، وينصت مستمعاً إلى ما يلقوا به على مسامعه من أخبار وتحركات وغليان داخل أسوار الجامعة. فكان يبدي اندهاشه كثيراً أمام تلك الأخبار، وكلما اندفعوا بحماسهم ازداد حماساً هو الآخر، وقد أضفى على نفسصه هالة من البطولة والوطنية مدعياً بأنه ضد النظام القائم في مصر مثل غالبية المصريين، بل إن حماسه اشتعل أكثر وأكثر وزعم أنه كُلف من قبل المخابرات الإسرائيلية بحرق القنصلية المصرية في بني غازي، وذلك في هوجة المظاهرات العادية لمصر التي وقعت في ليبيا في تلك الفترة.
وبهدوء شديد انتبه الطلاب لما يقوله، وأظهروا له أنهم صدقوه عندما رسموا على وجوههم ملامح الدهشة لوجود "بطل" بينهم قام بأعمال خطيرة، من شأنها أن ترفعه إلى مصاف "الوطنيين المخلصين". وعندما كلفهم بكتابة تقارير مفصلة عن الحركة الطلابية داخل الجامعة لكي يقرأها "على مهل" بعد ذلك، ازداد يقينهم أن في الأمر ثمة لغز، وأن هذا الشخص يخفي وراءه الكثير.
تظاهر الطلاب بالموافقة على كتابة التقارير، وحملوا شكوكهم إلى اللواء سيد فهمي رئيس مباحث أمن الدولة، الذي كلف اللواء أحمد رشدي ، مدير مباحث أمن الدولة، بوضع خطة محكمة، بالتعاون مع هؤلاء الطلاب، لإلقاء القبض على الجاسوس والحصول على أدلة مسموعة ومكتوبة تدينه. (1)
منذ تولى أنور السادات الحكم في مصر خلفاً للزعيم جمال عبد الناصر في 20 ديسمبر 1970، اتجه في سياسته كلية إلى استراتيجية المصالحة مع إسرائيل التي كانت في اعتقاده الشخصي هي أسهل الطرق وأقربها للوصول إلى الزعامة العربية التي ينشدها عن طريق حل سلمي لمشكلة الشرق الأوسط بمشاركة أمريكا، وما يتبع ذلك من حقن للدماء ورخاء. ولم يكن السادات يهتم كثيراً بمضمون السلام أو ضماناته ونتائجه بقدر ما كان يبحث عن زعامة شعبية تفوق زعامة جمال عبد الناصر.
عمد السادات أولاً إلى الإطاحة برموز السلطة الموالية لعبد الناصر في مايو 1971، وتفرغ بعدها كلية لفتح قنوات الاتصال السري مع الولايات المتحدة الأمريكية، والانفراد وحده بالسلطة بعد تغيير الهدف الاستراتيجي للدولة، وتهويل خسائرنا في الأرواح والمعدات في حالة الحرب، واستخدام وسائل الإعلام المختلفة لنبذ الحرب وإشهار أسلوبه الجديد في معالجة أزمة الشرق الأوسط والصراع العربي الإسرائيلي. وكان على السادات أن يقضي على أي صوت معارض لآرائه، واتجاهاته.
لذلك تكونت قوة معارضة داخلية أقلقت مضجعه، إلى جانب معارضة الاتحاد السوفيتي لسياسيته، فقام بطرد الخبراء السوفييت من مصر، وتسربت الأنباء عن نية السادات في الموافقة على اقتراح لموشي دايان بأن تسحب إسرائيل قواتها شرق القناة لمسافة تتراوح بين 30 – 40 كيلومتراً في مقابل عودة الملاحة إلى قناة السويس. وبرغم تنديد السادات للاقتراح الإسرائيلي إلا أنه فكر كثيراً في هذا الحل الذي سيعطيه بريقاً وزعامة لانسحاب اليهود دون إراقة نقطة دماء واحدة.
ولأن المعارضة الداخلية علا صوتها، وطالب النبض الجماهيري بالثأر للكرامة العربية، واسترداد الأرض عملاً بمقولة عبد الناصر "ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة"، كانت معارضة الطلاب في الجامعات المصرية تتخذ أشكالاً متعددة. نجمت عن تفريخ خلايا ناصرية قوية مؤمنة بمبادئ عبد الناصر وخطه السياسي، فظهرت المنشورات السرية بين الطلبة تفيض بالوطنية، وتندد بسياسة السادات ورؤيته للأزمة، وعم الشعور الوطني سائر الطلاب في أنحاء الجمهورية، وتعددت بالتالي مطالبهم بالسير على نهج الزعيم السابق لاسترداد الحق المسلوب.
كانت إسرائيل هي الأخرى في حالة غليان لا ينقطع، والتقارير الوافدة إليها لا تكاد تبين الرؤية الحقيقية، أو النهج الاستراتيجي الذي تتخذه الحكومة المصرية إزاء مواجهة الرفض الشعبي لموقفها الغير واضح من الأزمة.
ومن هنا ... نشط جواسيسها في القاهرة لجس النبض العام المؤثر في الشارع المصري.. وهم الطلاب، الذين حملوا على عاتقهم دائماً منحنيات السياسة والقرار المصري . وكان هؤلاء الجواسيس بالعشرات في تلك الحقبة يمثلون شبكات منفصلة تعمل جميعها لأجل دولة إسرائيل، ومن بينهم كان الجاسوس الشاذ عمر حمودة الذي أرسل خصيصاً إلى القاهرة لإعداد تقارير عن الطلاب داخل الجامعات المصرية، بعد نجاحه في مهمته السابقة بجدارة في لبنان، واكتسابه خبرة مخابراتية ومهارية عالية، تؤهله للعمل في مصر دون أن يكشفه جهاز المخابرات المصري.
اختلط عمر حمودة بالمجتمع الطلابي بالمدينة الجامعية، واستطاع أن يدخل الحرم الجامعي في عين شمس الذي يضم كليات الحقوق والعلوم والآداب والتجارة. ومن خلال تردده المستمر تعرف بفتاة في السنة الثالثة بكلية الآداب، تدرس بقسم الدراسات اليونانية واللاتينية – أعرق أقسام الكلية – وحاول أن يوهمها بحبه. لكنها لاحظت كثرة حديثه عن إسرائيل واشتراكه في مظاهرات معادية لمصر في الخارج، فتخوفت منه الفتاة خاصة بعدما حاول مراراً أن يعرف من خلالها نبض الطلاب لكونها عضوة في اتحاد الطلاب، ففشل فشلاً ذريعاً معها ... في ذات الوقت الذي كان فيه زملاء شقيقه عبد الحميد، بالاشتراك مع مباحث أمن الدولة، يرتبون أمر الإيقاع به على وجه السرعة.
وحسب الخطة المرسومة أعد له الطلاب جلسة سمر في حجرتهم بالمدينة الجامعية بعد تزويدهم بجهاز تسجيل دقيق، وجلس الخائن بينهم يستعرض أعماله البطولية "الوهمية" في ليبيا معترفاً بأنه "عمل حاجة جامدة" وأقر صراحة بعلاقته بالقنصلية الإسرائيلية في تركيا وتدريبه بواسطة الموساد، وعرض عليهم خدماته المادية والمعنوية فيما لو أمدوه بصفة دورية بأنشطة الطلاب المعادية لإسرائيل، وبالمنشورات التي توزع داخل الجامعة. وحوت الجلسة تهجم الجاسوس على الأوضاع عامة في مصر وشتمه للمسؤولين وللحكومة.
وبعد عدة ساعات من السمر ذهب الخائن إلى حجرة شقيقه في مبنى "د" بينما حمل الطلاب شريط الكاسيت إلى فريق مباحث أمن الدولة المتواجد بالقرب منهم، وبعد الاستماع إلى الشريط وعرض الأمر على المسؤولين، أصدرت النيابة أمراً فورياً بالقبض عليه.
وفي الساعة الثالثة من صباح يوم 19 مايو 1973 توجهت القوة المكلفة باعتقاله إلى المدينة الجامعية واقتادته للتحقيق. وعندما تبين للخائن انكشاف أمره للسلطات المصرية، أخذ يضرب رأسه بقبضته ثم لطم خديه وبتفتيش أوراقه عثر على قائمة بالتكاليف التي جاء لأجلها وتضم "12" تكليفاً بخط يده بجمع معلومات عن الحركة الطلابية في مصر، والحصول على نسخ من المنشورات التي توزع داخل الجامعات، والعناصر التي تسيطر على الطلبة، ومعلومات عن الوضع الاقتصادي والسياسي، وأماكن الصواريخ على القناة، ورغبة الشعب المصري في الحل السلمي أو العكس، ومعلومات عن الطلبة الفلسطينيين في مصر، وعن الوحدة الاندماجية. ونصحه النقيب سامي قبل سفره بتمزيق ورقة التكليفات لكن الجاسوس نسى ذلك أو سخر من نصيحته... وعثر لديه أيضاً على فاتورة الفندق في استانبول ومكتوب عليها "دفعت من قبل القنصلية الاسرائيلية".
اعترف الجاسوس بكل شيء أمام محكمة أمن الدولة العليا، برئاسة المستشار مصطفى عبد الوهاب خليل، وحكم عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة. برغم أن التحقيقات أكدت على أنه لم ينقل أية معلومات من مصر، وأن المعلومات التي ضبطت معه لا تشكل خطورة.
وكان من المحتمل نقله إلى لبنان لمحاكمته لو أن الحكم عليه جاء بأقل من المؤبد، ولكن 25 سنة بين جدران السجن – عمر آخر – كفيل بأن يدمر ويبني أشياء كثيرة في حياة خائن ، شاذ !!