في الثاني عشر من مارس 1929 ولد "السيد محمد محمود محمد" بالإسكندرية لأسرة ثرية يعمل معظم أفرادها في "البحر". وانصرف السيد عن دراسته مبكراً ولم يحصل على الشهادة الإعدادية، فكان شغفه بالبحر أعظم من فصل المدرسة لديه.
لذا .. فقد أثمر هذا الحب لكل ما هو "بحري" عن خبير بالشؤون البحرية يشهد له الجميع بذلك. وكان عمله في ميناء الاسكندرية قد أتاح له – من خلال عائلته – الارتباط بصداقات عديدة بالعاملين بالميناء، ومعرفة أدق التفاصيل عنه.
وفي الثانية والعشرين من عمره .. أحب ابنة صديق للأسرة يعمل في الميناء أيضاً. وتزوج من "إخلاص" وعاشت معه في شقة رائعة بمنطقة سيدي جابر.
ومرت به الأعوام وهو يكبر بين أصحاب المهنة وتتسع علاقاته واتصالاته. وينجح في عمله إلى مدى بعيد. فاستثمر هذا النجاح وامتلك 40% من الباخرة التجارية اللبنانية "م. باهي" وترك العمل على الشاطئ لينتقل إلى عمق البحر، إذ عمل مساعداً للقبطان... وبدأ يبتعد كثيراً عن الاسكندرية في رحلاته إلى موانئ العالم... فزداد الماماً بعلوم البحر والطقس .. وامتلأت جيوبه بالمال فاستثمره هذه المرة في الزواج من فتاة صغيرة رائعة الجمال .. كان قد التقى بها في المعمورة ورآها "غادة" حسناء تمرح على الشاطئ كأنها عروس البحر.
لقد كلفه الزواج منها مبالغ طائلة أرهقت ميزانيته. وتورط بسببها حتى اضطربت أحواله المادية أكثر بعدما احتاجت الباخرة لـ "عمرة" كاملة، كان عليه أن يدفع 40% من تكلفتها، فقد كانت بينهم وبين شركة التأمين مشاكل طائلة أدت إلى تعسرهم مالياً.
وأمام أزمته الطاحنة .. اضطر السيد محمود إلى "رهن" نسبة من نصيبه في الباخرة، وكان من تلك الفترة قد دخل بكل قوة إلى دائرة الإفلاس التي تضيق حوله وتعتصره.
كان السيد محمود قد قارب الأربعين من عمره، وسيم أنيق المظهر، خبير بالأمور البحرية... وأعلى خبرة بشؤون النساء وأنواع الخمور... وكان لا ييأس إذا ما صدته امرأة أو تجاهلته فتاة جميلة. فهو يملك من وسائل اجتذابها ما يحير العقول، يساعده على ذلك لسان زلف رقيق، وعينان بريقهما عجيب كل العجب يسهل له مسعاه، وكانت علاقاته النسائية متعددة برغم زواجه من اثنتين.. ولا يكف عن إثبات ذاته أمام الفتيات الصغيرات اللاتي ينجذبن سريعاً لطلاوة حديثه وجرأته، ولقدرته الفائقة على احتوائهن.
كان أيضاً يستغل المال في شراء النساء بالهدايا القيمة التي يجلبها من الخارج كلما عاد محملاً بها... في وقت كانت الأسواق المحلية تفتقر إلى البضائع المستوردة التي تلقى إقبالاً شديداً خاصة حوائج النساء.
كل ذلك ساعد بطريقة أو بأخرى على تعدد علاقاته النسائية ومفاخرته بذلك أمام أصدقائه الذين طالما حسدوه لحظه الواسع من الجنس اللطيف.
هذه المغامرات ... خلافاً لليالي الأنس والفرفشة... التي كان يقيمها في شقة خاصة في سبورتنج .. كانت تستنزف منه أموالاً كثيرة أيضاً، وأدت إلى ابتعاده – مؤقتاً – عن هوايته في تصيد النساء .. التي أرهقت مدخراته وإن كانت قد قضت عليها بالفعل.
وأثناء توقف الباخرة للإصلاح بميناء نابولي الإيطالي... ذهب السيد محمود إلى روما... وبالمصادفة قابله هناك صديق قديم من يهود الاسكندرية اسمه فيتورا ... قال له إنه يعمل ضابطاً إدارياً في شركة السفن التجارية الايطالية.
وعلى مدار جلسات طويلة بينهما... استعرضا مراحل حياتيهما الماضية والحاضرة. وشكا له فيتورا شوقه الشديد لزيارة الاسكندرية، فدعاه السيد محمود لزيارته هنا وهو على ثقة بأنه لن يلبي دعوته... لكن خاب ظنه عندما فوجئ به يزوره بالاسكندرية.
وخلال هذه الزيارة الغير المتوقعة .. تكشف لفيتورا أمر صاحبه ومدى معاناته... بسبب أزمته المادية الحرجة التي تنغص عليه حياته، وتتهدد مستقبله كله. خاصة وهو صاحب بيتين وزوجتين ... وحجم المصروفات يزداد كل يوم يمر. وصارحه السيد بمدى يأسه من صلاح حاله والسفينة قد فتحت فاها ولا تريد إغلاقه، وأنه أخيراً باع نصيبه بالديون التي تراكمت عليه وتضخمت. وطلب من صديقه اليهودي راجياً أن يبحث له عن عمل في أي مكان من العالم.
وبعد تفكير .. أخبره فيتورا أنه سيعمل على تقديمه لصديق إنجليزي يعمل صحفياً على منظمة "حلف شمال الأطلسي" ويقيم في أمستردام بهولندا. وعندما سأله السيد عن نوع العمل الذي قد يقوم به مع صديقه الصحفي، أخبره فيتورا أن مجال الصحافة ليس له حدود. لأنه يتدخل في شتى المجالات وليس قاصراً على معلومات بعينها.
ولما أكد له أن الصحافة الأجنبية تدفع كثيراً... تهلل السيد محمود فرحاً... وطلب بإلحاح من فيتورا أن يسعى عند صديقه الانجليزي، وأنه مستعد للتعامل معه كمراسل صحفي بالشكل الذي يرضاه.
وفي اليوم التالي ادعى فيتوار أنه اتصل بصديقه في أمستردام وعرض عليه الأمر، فوافق وطلب موافاته بعدة تقارير اقتصادية وتجارية وسياسية... مع التركيز على ميناء الاسكندرية وكتابة بيانات شاملة عنه وعن الحركة التجارية والملاحية والتسويقية من خلاله.
فرح السيد محمود كثيراً واستغرق عدة أيام في كتابة التقارير بعدما زار الميناء الحيوي للاستعانة بصداقاته هناك في الحصول على إجابات وافرة على العديد من التساؤلات... ثم حزم حقيبته وسافر برفقة صديقه إلى أمستردام رأساً حيث نزلا بفندق "أمريكا" الفخم.
وفي الفندق... زاره الصحفي البريطاني "ميشيل جاي طومسون" – الذي هو في الأصل ضابط مخابرات إسرائيلي – واستغرق وقتاً طويلاً في الحديث معه ومناقشته فيما جاء بتقاريره الهامة... ووجد السيد محمود نفسه يعيش حياته السابقة من جديد حيث الخمر والنساء الجميلات.. وبخاصة كريستينا الرائعة التي قدمها له طومسون كصحفية تعمل معه. وغاب عن ليومين تاركاً كريستينا معه وتحت أمرته.
كانت الفتاة اليهودية المثيرة تعلم أنه زوج لاثنتين. وزير نساء خبير بأمورهن، ولذا كان عليها أن تكون مختلفة عن كل النساء اللاتي عرفهن. فأبدعت في إثارته إلى درجة الهوس. وفي حجرته بالفندق لم تسكره الخمر بقدر ما أسكره دلالها... وجسدها الأنثوي الذي تفوح منه رائحة الرغبة... فكانت تدعوه اليها وتتمنع، وكلما اقترب منها زادته لسعات النشوة ليمتشق سلاح الصبر وما صبر لديه، فيهوى سكراناً بين يديها، يمتص معتق الخمر من نهر الحياة بين نهديها، وترتجف خلجاته نشوانة لفعل اللذة الساحرة، ويقسم بأنه ما ذاق من قبل طعم امرأة، ولا ذهب عقله بلا خمر إلا معها.
فتضحك العميلة المدربة في نعومة آسرة، وتخبره بأنها تعمل مع طومسون لصالح المخابرات الأمريكية... إضافة إلى عملها في "حلف شمال الأطلسي" فلم يندهش العاشق الغارق بين أحضانها أو يحس بمدى الخطر الذي يحيط به. وعندما جاءه طومسون ...أبلغه تحيات فيتورا الذي سافر إلى استراليا، "حيث انتهت مهمته إلى هنا".
رجع السيد إلى القاهرة ومعه مئات الدولارات... والعديد من الهدايا التي حرم من حملها لفترة طويلة. وأيضاً – يحمل عدة تكليفات محددة عليه الكتابة عنها بتفصيل. وأغراه ضابط الموساد بمبلغ كبير لكل تقرير مفصل... يحوي معلومات قيمة لا تتوافر في المادة الصحفية المنشورة في الصحف المصرية.
وما هي إلا أسابيع حتى سافر إلى أمستردام مرة ثانية بحقيبته عدة تقارير غاية في الأهمية. وإحصائيات عن حركة ميناء الإسكندرية اليومية.
اندهش طومسون لغزارة المعلومات التي جلبها تلميذ الجاسوسية الجديد. أهدى إليه كريستينا لعدة أيام مكافأة له، فغيبت عقله وحركت بداخله كل إرهاصات النشوة وتياراتها المتلاحقة.
نوع آخر من النساء هي. دربها خبراء الموساد على التعامل مع المطلوب تجنيده بأساليب شتى تجعله يعشق الجنس... ويدمنه ... فكانت تزرع لديه اعتقادات الفحولة التي لا يتمتع بها سواه. وبنعومة الحية تنسج معه قصة حب ملتهبة مفعمة بالرومانسية الخالصة ثم تمتزج بالجنس فيختلط الأمرين ويقع الضحية فريسة الرغبة الشديدة في الارتواء والتي عادة ما تنطفئ أو تخمد.
فالعميلة المدربة تملك سلاح تأججها الدائم. والقدرة على السيطرة على الضحية بسلاح الضعف وعدم إيثار اللذات... هكذا تفعل عميلة الموساد التي تخرجت من أكاديمية الجواسيس في إسرائيل برتبة عسكرية ... وترتقي وظيفياً كلما أجادت استخدام لغة الجسد في "العمل".
فالجسد الانثوي – مادة خصبة تجتذب ضعاف النفوس ... أمثال السيد محمود الذي نظر في بلاهة إلى فتاته العارية وهي تقترب من لحظات الذروة ... حينما تصرخ وتخبره في ضعف أنها إسرائيلية تحبه وتعشقه وتعبده. ويكمل صعود المرتفع وحين يهبط.. تكرر عليه القول فلا يهتم. وتفهم من ذلك أنه سقط... سقط لآخره في عشقها وحبائلها... ولأنه مغيب العقل فلا مفر من استسلامه. وبعد عدة أيام – كان في طريقه إلى الاسكندرية – عميلاً للموساد الاسرائيلي، فهناك أحاديث سجلت له، وأفلام فاضحة تظهر لحظات ضعفه وشذوذه مع العميلة المدربة، وهناك ما هو أهم – التقارير الخطيرة التي كتبها بخط يده.
أغمض عينيه ولم يهتم بالنداءات المستمرة التي كانت تصدر عن جهاز المخابرات المصرية... والتي تعفي أي مصري تورط مع الموساد بشرط الإبلاغ الفوري ... وتجاهل كل تلك النداءات لظنه أن إبلاغهم بالأمر... معناه حرمانه من آلاف الجنيهات التي يحصل عليها مقابل عدة تقارير لا يبذل في جمعها مجهوداً يذكر ... فالمعلومات متوفرة بكثافة وكل معلومة لها ثمن يحدده هو حسب أهميتها. عليه إذن أن يبحث عن كل ما هو مهم لتزداد مكافآته. ويكبر راتبه الشهري الذي حددوه له بـ 500 دولار .. مبلغ كبير بلا شك من أين له بمثله إذا امتهن أية مهنة؟
كان يكتب تقاريره التفصيلية وبضمنها كل المعلومات التي تصل إليه... ويتوقع أرقاماً معينة ثمناً لها.. ويسرع بالسفر إلى أمستردام كلما تضخمت لديه المعلومات ليجد في انتظاره كريستينا وطومسون. هي تمنحه جسدها، وتزيل عنه أعباء الخوف الذي يتملكه عندما تنشر الصحف المصرية قصة القبض على جاسوس لإسرائيل... وطومسون يعمل على إزالة الخوف منه بتدريبه على استخدام الشيفرة في الكتابة بالحبر السري، وعلى استعمال الراديو لاستقبال التعليمات من خلاله بالشيفرة وطريقة حلها وأسلوب تنفيذها... وتدريبه أيضاً على كيفية تمييز الأسلحة بالنظر. وكان طومسون يؤكد له بصفة مستمرة... أن التدريب الجيد فيه تأمين له .. وحصانة ضد الخطأ الذي قد يوقع به ... ويحثه دائماً على الالتجاء إلى العلم... وإلى التزود بالحس الأمني العالي لحماية نفسه.
المصير الأسود
ومع جرعة التدريب العالية التي نالها... عاد السيد لاستئناف نشاطه بشهية مفتوحة ومحفظته متخمة بالأموال ... وحقائبه ملأى بالهدايا... وعرف أكثر وأكثر قيمة كل معلومة يجمعها. خاصة المعلومات العسكرية.ولما كانت مصادر معلوماته العسكرية معدومة.. فكر في تجنيد شقيقه الأصغر "أمين" المجند بالقوات المسلحة. فاستغل حاجته الى النقود فترة تجنيده... للإنفاق على نفسه على حبيبته التي يستعد للزواج منها، ولعب على هذا الوتر، وكلما أمد شقيقه بالنقود كلما أخضعه له.لم يكن الأمر صعباً على أمين هو الآخر، فببعض معلومات عسكرية لا قيمة لها عنده ... يمنحه السيد مقابلاً كبيراً لها .. وعندما سأله أمين ذات مرة ضاحكاً: هه يا أخي ...هل تعمل جاسوساً؟!انتفض كالملسوع واكفهر وجهه وقام على الفور وصفعه بشدة قائلاً:Ø إياك أن تخبر أحداً بهذا الأمر ... أنا أعطيك مبالغ طائلة مقابل معلوماتك، وكلمة واحدة وتنتهي حياتنا الى الأبد.وانخرس أمين ولملم جرأته وانغمس مضطراً بسبب المال إلى الاستمرار في إمداد شقيقه بالمعلومات.وذات مرة .. عرض عليه السيد أن يجلب له خرائط عسكرية... ولوحات هندسية لتصميمات بعض المواقع الهامة. وتخوف أمين في البداية، وأمام إغراءات المال استجاب أخيراً ولكنه ساومه على الثمن، وتفاصلا في المبلغ حتى اتفقا.وعندما رأى طومسون الصور العسكرية واللوحات البالغة السرية... احتضن الجاسوس الخائن وقال له "سأكتب حالاً بذلك الى إسرائيل وسأطلب لك مكافأة سخية" وجاء الرد من تل أبيب يفيض كرماً وسخاءً.هذه المرة .. لم يهتم السيد كثيراً بعشيقته التي لم تأت لمقابلته، بل انحصر اهتمامه في القيمة المادية التي سيتحصل عليها ثمناً لما أمدهم به، ولم يمكث كثيراً بأوروبا إذ عاد على وجه السرعة... حيث جاءه مولود جديد من زوجته غادة بعد محاولات فاشلة سابقة، وحيث ينتظره أخوه أمين ...الذي يجهز شقته استعداداً للزواج من حبيبته "توحة".كانت حرب أكتوبر قد انتهت. وكثف أمين من نشاطه في تصوير المستندات العسكرية والخرائط قبل خروجه من الجيش إلى الحياة المدنية. وحرمانه من المبالغ الخيالية التي يحصل عليها من شقيقه، وهذا ما أوقع بالخائن وبشقيقه في قبضة المخابرات المصرية...فقد حامت شكوك حوله مصادر المال الذي ينفقه أمين بشراهة، ولفت انتباه أحد زملائه اهتمامه بالحجرة التي تحوي تصميمات هندسية سرية لممرات الطائرات في المطارات الحربية... وقواعد يجري إنشائها في عدة مواقع سرية.ووصلت الشكوك إلى القائد الذي جمع التحريات عن الجندي أمين ... فاتضح له أنه يغدق بالهدايا على زملائه...وأقام صداقات قوية للحصول على أجازات من القوات المسلحة يقضيها في اللهو والمجون.وبوضعه تحت المراقبة هو وشقيقه السيد، وكانت النتيجة الحتمية سقوطهما في قبضة المخابرات المصرية وهما في غفلة من الزمن لا يتصوران أن أمرهما قد ينكشف في يوم من الأيام.هكذا فاجأ فريق من رجال المخابرات العسكرية شقة أمين... وتم العثور على وثائق عسكرية هامة، تحوي خرائط ولوحات لمواقع استراتيجية، اعترف أمين في الحال أنه جلبها لشقيقه السيد مقابل مائة جنيه... وبمداهمة شقة السيد وجدوه يخبئ وثائق أخرى بجيب سحري بقاع حقيبته... فانهار لا يصدق ...وأخذ يلطم خديه ويردد: - الطمع والنسوان ضيعوني ... وأنا أستاهل.وضبطت لديه كل أدوات التجسس ... الأحبار السرية... جهاز الراديو .. جدول الشيفرة .. الكاميرا... الخ.واستمر التحقيق معهما، ابتداء من 28 مارس 1974 حتى ديسمبر 1974 حيث اعترفا خلاله بتهمة التجسس لصالح المخابرات الإسرائيلية..وعندما نطق القاضي بالحكم، دوت صرخات عالية في القاعة من ثلاثة نساء، كن إخلاص وغادة وتوحة، واقتيد السيد محمود ليقضي 25 عاماً في أحد سجون الصحراء، وكان منظراً عجيباً في قفص المتهمين بالمحكمة، إذ أمسك أمين بتلابيب شقيقه الأكبر وغرس فيه أظافره وأنيابه وهو يصرخ:Ø أنت السبب يا مجرم، أنا ح أقتلك... ح اقتلك... ضيعت خمستاشر سنة من عمري أونطة يا ... ... وباعدوا بينهما واقتيد كل منهما في عربة مصفحة حيث ينتظرهما مصير أسود .. لا ضوء فيه ولا شعاع...فالطريق غامض.