وعندما كانت مصر – بل والأقطار العربية كلها تزغرد للنصر ... كان رجب يبكي في مكتبه وينتفض جسده خوفاً وشفقة على شعب إسرائيل الذي يقتله العرب بلا رحمة مجتمعين. وكثرت في تلك الأثناء زياراته للميناء يستقص الأخبار ويستقي المعلومات بجرأة، دون أن يلفت انتباه أحد، لكثرة أسئلته عن السفن الراسية بالميناء وفي الغاطس تنتظر الدخول.
لفتت رسائله المتعددة إلى أثينا وروما انتباه ضابط المخابرات المصري المكلف بمراقبة البريد الصادر إلى خارج مصر والوارد إليها. واكتشف أمر الرسائل المشفرة. وقام جهاز المخابرات المصرية بمراقبة بريد رجب عبد المعطي ... وجرى الكشف عن كل رسائله وصورت وأعيد إغلاق الرسائل بدقة متناهية.. لكي تكون دليل إدانة ضده أمام النيابة وعند محاكمته.
وبينما كان الجاسوس مشحوناً بحماس النصر، وبدأت الخريطة السياسية للمنطقة تتشكل من جديد .. نشط رجب في رصد حركة الميناء المستمرة وأرسل الرسالة التالية إلى صديقه "الوهمي" ديميتريوس في اليونان:
الإسكندرية 27/11/1974. عزيزي ديمتريوس.
1- خط عادي: تهنئتي القلبية بمناسبة عيد ميلادك السعيد، ولعلك .
2- حبر سري: سفن شحن متعددة من جنسيات مختلفة تدخل.
1- خط عادي: الآن في أحسن حال بعد الوعكة الصحية التي أصبتم.
2- حبر سري: الميناء لتفرغ حمولتها من المواد التموينية بكثرة.
1- خط عادي: بها منذ ثلاثة أسابيع. فكيف حالكم الآن؟!!
2- حبر سري: أيضاً تأكدت من وصول سفينة تشيكوسلوفاكية.
1- خط عادي: أحوالي على أحسن ما يرام، وأنوي إجراء بعض.
2- حبر سري: تحمل معدات عسكرية في صناديق يصعب الاقتراب.
1- خط عادي: أعمال الديكورات الحديثة بمكتبي، على ذلك.
2- حبر سري: منها بسبب الحراسة المشددة، ولا زالت.
1- خط عادي: فسأتغيب لمدة أسبوعين على الأكثر على شاطئ.
2- حبر سري: سفن عربية من الجزائر وليبيا تنزل حمولتها.
1- خط عادي: البحر الأحمر ريثما ينتهي مكتب الديكور من عمله.
2- حبر سري: من البطاطين والمواد الطبية وسفينة عملاقة.
1- خط عادي: ولسوف أعاود بعد ذلك نشاطي بشكل أفضل.
حبر سري: تحمل علم بنما اسمها "ليليها مر" محملة بحوالي.
1- خط عادي: بعد هذه الإجازة التي أتشوق اليها لأتمكن.
1- خط عادي: من صيد السمك بعيداً عن زحام العمل والتوتر.
2- حبر سري: مختلفة وسفينة سوفيتية تحمل معدات توليد.
1- خط عادي: المستمر من جراء المشكلات المتوقعة.
2- حبر سري: كهرباء ضخمة وآلاف من الإطارات.
1- خط عادي: تهنئتي لك مرة أخرى وتحياتي وأشواقي.
2- حبر سري: الكاوتشوك مقاسات مختلفة وموتورات.
1- خط عادي: رجب.
2- حبر سري: رقم / 1041.
قتلته ظنونه
... . وأخيراً .. بعد أن جمعت المخابرات العامة المصرية كل الأدلة التي تدينه ... توجهت قوة من رجال المخابرات صباح 13 يناير 1975 إلى مكتبه... اعتقد رجب أنهم "زبائن شغل" ولكن ... حينما أخبره قائد القوة بأنه ضابط مخابرات ... لم يستطع رجب أن يقف ... ظل ساكناً على كرسيه تتحرك ركبتاه لا إرادياً، واصطكت أسنانه فجأة، وزاغت عيناه في هلع لا حدود له.
ومن قبيل الصدف العجيبة أن رجل البريد جاء برسالة من المخابرات الإسرائيلية – مرسلة من الداخل – أثناء وجود المخابرات في مكتبه حيث طلبوا منه حلها ... ووضعوا أمامه كتاب الشفرة التي عثروا عليه في درج سري بالمكتب مع كل أدوات التجسس المزود بها.
لم يستطع رجب استيعاب الأمر على حقيقته. فقد كانت نظرات ذهوله تدل على مدى الرعب الذي أصابه... إنهم أفهموه في تل أبيب وفي أثينا أن المخابرات الاسرائيلية لم يحدث لها أن فشلت مرة واحدة في مهامها.. ولكن الفشل يأتي دائماً من العميل الذي قد يهمل تكتيكات الأمان التي يجب عليه أن يلتزم بها ولا يهملها أبداً. فجهاز المخابرات الاسرائيلي – حسبما اقنعوه – أفضل أجهزة المخابرات في العالم.
ابتسم رجب في سخرية عندما تذكر ادعاءاتهم الباطلة، وبينما كانت قافلة السيارات تنطلق به إلى القاهرة – كانت المخابرات الإسرائيلية ترسل بالراديو رسالتها الدورية إلى عميلها:
"ننتظر ردك على الرسالة التي وصلتك .. لا تتأخر، واستعد للسفر خلال شهر مارس إلى أثينا".
وفي مبنى المخابرات المصرية جرى استجوابه فاعترف تفصيلياً – وهو مذهول – بقصة سقوطه في مصيدة المخابرات الإسرائيلية .. وعقدت له محكمة عسكرية وجهت اليه التهم الآتية:
Ø باع نفسه ووطنه للعدو مقابل المنفعة المادية.
Ø أمد العدو بمعلومات عسكرية واقتصادية تضر بأمن الدولة ومصلحة البلاد.
Ø ارتضى لنفسه أن يحمل اسماً يهودياً وجواز سفر يهودياً ورتبة عسكرية يهودية.
Ø التخابر مع دولة معادية "إسرائيل" بقصد الإضرار بالعمليات الحربية لمصر.
Ø التخابر مع دولة أجنبية معادية لتسليمها سراً من أسرار الدفاع عن البلاد.
وحكمت المحكمة بالإعدام شنقاً... وصدق المفتي ورئيس الجمهورية على الحكم. وأثناء انتظار التنفيذ ... شعر الخائن بعظم جرمه وفداحة مسلكه. وعامله المجرمون والقتلة في السجن معاملة سيئة، وكادوا أن يفتكوا به عدة مرات كلما سنحت لهم فرصة لقائه. وأنزوى الخائن يجتر ذكرياته فتتقلص عضلات جسده.. ومضت عليه عدة أسابيع، ذاق خلالها مرارة الحسرة والذل والمهانة... ونحتت بدنه عضات الندم .. حتى عثر عليه ذات يوم ملقى على الأرض بزنزانته وسط بركة من الدم المتجلظ ... وقد عثر على إحدى عدسي نظارته منزوعة ومهشمة... وتبين أن هناك ثمة قطع غائر بيده اليسرى طال شريانه.
Ø ترى .. هل أصابه مس من العقل وأدرك فداحة جرمه فانتحر؟
Ø أم أنه استشعر الفارق الشاسع ما بين الرفاهية والحبس؟
Ø أو ربما ظن أن الموساد ستنقذه لا محالة فقتلته ظنونه؟ لا أحد يعرف..
Ø لكنه حتماً أفاق بعدما خسر الكثير..
Ø خسر نفسه وأهله ووطنه ... وكل شيء ... كل شيء ضاع..
لكن اسمه سيظل دائماً بقائمة الخونة ... أولئك الذين باعوا عروبتهم بثمن بخس... ولن يغفلهم التاريخ على مر الأحقاب ...!!