أهلا وسهلا بك زائرنا الكريم في منتديات 56 نيوز، لكي تتمكن من المشاركة ومشاهدة جميع أقسام المنتدى وكافة الميزات ، يجب عليك إنشاء حساب جديد بالتسجيل بالضغط هنا أو تسجيل الدخول اضغط هنا إذا كنت عضواً .





25-12-2011 08:42 مساءً
مشاهدة مشاركة منفردة [1]
رحمة
rating
معلومات الكاتب ▼
تاريخ الإنضمام : 2008-08-27
رقم العضوية : 6
المشاركات : 9822
الدولة : EG
الجنس : أنثى
الدعوات : 29
قوة السمعة : 1561
التعليم : جامعي
الهواية : طهي
  
look/images/icons/i1.gif رواية يوم غائم في البر الغربي وهى قصة مسلسل وادى الملوك
توقفا عن الكلام لبرهة وبدأت الأم تعيد حساباتها، تركها الرجل وأخذ يدور حول الشاطئ يبحث عن بعض الأغصان الجافة، وبعض العشب الصالح لإطعام الحمارين، تحرك فى صمت متجنبا نظرات الأم التى تحدق فى الفراغ، كانت «العشة» تحمل رائحة رجل وحيد، كومة من الثياب المتسخة، ووعاء فخارى فيه بقايا قطع من الخبز، وفراش من القش كانت عائشة تنام عليه، وضع المزيد من الحطب، التفت للأم قائلا:
هناك قطار القصب.

أفاقت الأم فى شرودها وانتبهت له: أى قطار؟
موقفه قريب من هنا، إنه يسير وسط حقول القصب حتى «الحوامدية»، وهو يتوقف فى كل فترة ليجمع المزيد من عيدان القصب، المشكلة أنه قطار بطىء وحمولته خشنة وجارحة، وغير مسموح بالركوب فيه.

وكيف أستطيع الركوب فيه إذن؟
أنت سيدة الإقناع، يمكنك التفاهم مع الخفراء، ومع السائق، المهم أن تتحملا مشقة الرحلة.
نظرت الأم إلى جسد عائشة المسجى، كانت ماتزال مغمضة العينين، ولكن الزرقة انسحبت من خدها وحل بدلا منها حمرة باهتة، كانت الحياة تدب فيها بسكون، قال «المراكبى»:
لن يأتى القطار قبل الصباح، تأخر الوقت وأصبح الجو سيئا، يمكنكما البقاء داخل العشة، وسأبيت فى الخارج.

نظرت إليه الأم فى استغراب، لم تتوقع تلك الإيماءة من الكرم المفاجئ، نظرت نحوه بمكر فلاحى:
ليس معى المزيد من الفضة.

لم يرد عليها، مد يده تحت الفراش الذى تنام عليه عائشة وأخرج قرطاسا صغيرا من الشاى وآخر من السكر، كأنه يخرج كنزا ثمينا، وبدأ يدس «كوز الصفيح» المسود فى النار وهو يقول لها:
ــ ما أخذته منك يا سيدتى يكفى ويزيد، أنتما الآن ضيفتاى.

تأوهت عائشة وفتحت عينيها لبرهة، حدقت فيهما باستغراب، ثم عاودت إغلاق عينيها مرة أخرى، ولكنها كانت لمحة مبشرة، أعادت الطمأنينة إلى قلب الأم، دق قلب «المراكبى» وهو يرى هذا المس من السحر، ناول الأم كوبا من الشاى الثقيل، وأعد لنفسه آخر، وحاولت الأم أن تهز عائشة لتشاركهما ولكنها أدارت ظهرها لها، أخذ الاثنان يرشفان الشاى فى صمت، ثم قال «المراكبى» وهو يحاول أن يسلك صوته:
من الواضح أنكما من كرام الناس، ما سبب هذه الرحلة الشاقة؟
لا أعتقد أنكما هاربتان من شىء.

قالت الأم وهى تتنهد: الأمر معقد، أكثر من أن أشرحه لغريب عابر.
ربما كان من الأفضل أن تخففى عن صدرك مع غريب عابر، ولا يوجد أفضل من «المراكبى» الذى يعيش دائما بين شاطئين، لا أرض تخصه، ولا أهل يأوى إليهم. الماء هو موطنى، والسمك هو أهلى.

قالت الأم وهى تتنهد:
كل ما أستطيع أن أقوله إننى أبحث عن مكان آمن، حياة جديدة..
لم تقل له عن الترع والرياحات التى عبرتها هى و«عائشة»، ولا النجوع المنسية التى تجنبتاها، ولا شقوق الجبال التى مرقتا منها، لم تذكر له عن حليها التى باعتها لتوفر تكلفة هذه الرحلة، فقط وضعت كوب الشاى الفارغ وأسندت ظهرها لجدار العشة وأغمضت عينيها، ولاحظ «المراكبى» أنه رغم الغضون التى تملأ الوجه والجلد المدبوغ الذى يغطى الجلد فإن الأم والابنة متشابهتان إلى أبعد مدى، نهض فى بطء كما وعد وجلس خارج العشة، وتأمل أضواء بقايا النهار وهى تهبط وتذوب فى مياه النهر.

الليل فى مصر هو الأشد ظلمة من أى مكان آخر، خصوصا عندما يغيب القمر الشاحب، فالظلمة دائمة والضوء طارئ، تراكمت ذراته الداكنة على ضفاف الوادى عبر آلاف السنين، من حرائق أعواد الغاب لإبعاد التماسيح وأفراس النهر الجائعة، ومن قمائن الطوب التى تحرق الطمى، ومن توهج الفخار لصنع آنية الطعام والدفن، وأبخرة الشعير المتصاعدة عند تخمير الجعة، وشذرات الصخور التى يتم تقطيعها لبناء البيوت وسراديب المقابر، من ركام الجير الحى، والصهد المتصاعد منها على مدى الليل والنهار، ومن اشتعال سعف النخل والقش بحثا عن الدفء وطهى الطعام، وحرائق غيطان القصب لتتشرب الأرض ببقايا رماد الخصوبة، وإشعال البخور فى المعبد عند تقديم الأضاحى، وأدخنة المر والعطر واللبان، والمشاعل التى كان بناة الأهرام يشعلونها طوال الليل على مدى عشرين عاما، كل هذا صبغ الأرض بلون السواد، وجعل الليل كثيفا، حتى إن ريح الخماسين لا تقدر على إزاحته.

جلس «المراكبى» ضئيلا أمام رياح النهر الباردة، تأمل السحب الداكنة التى أخفت خلفها القمر والنجوم، استند إلى جذع نخلة، أحس بأليافها الخشنة وهى تغز ظهره، هناك شىء ما قد تغير، أحس فجأة بالوحدة والجوع كما لم يحس بهما من قبل، ضياع أيام العمر، وبؤس«العشة» التى يسكنها، وفقر الطعام الذى يتناوله، كأن وجود هذه الفتاة العديمة الحيلة، مجرد وجودها، قد غير كل شىء من حوله، تحسس القطعة الفضية فى جيبه، كانت هى تميمته، لن ينفقها أبدا لأنها ستذكره دوما بوجهها الصبوح، ومن المدهش أن هذه الخواطر ساعدته على احتمال البرد حتى الصباح.

كانت عائشة أول من استيقظ، رأت الأم النائمة، والنار الخامدة، أحست بالألم فى ذراعها فتذكرت ما حدث بالأمس، نهضت وهى تترنح من الجوع، خرجت من العشة فرأت «المراكبى» وهو مكوم عند جذع النخلة، أحس بوجودها ففتح عينيه، وجدها واقفة تتأمله فى صمت، بدا وجهها شاحبا وجميلا وحزينا، لم تكن تدرى أنه حملها على ذراعيه، وأنه انتهز الفرصة وضمها إلى صدره قليلا، خفية عن عين الأم، قال لها:
هل أنت بخير؟ هل نمت جيدا؟
أومأت برأسها وأعطته ابتسامة صغيرة، خرجت الأم من «العشة» متعجلة وهى تقول له:
فى أى اتجاه يوجد قطار القصب؟ هل هو بعيد؟
أشار «المراكبى» إلى الاتجاه المطلوب وهو يشعر بالخيبة، قال:
إنه ليس بعيدا عن هنا، مسافة بسيطة.

قالت الأم وهى تشير إلى الحمارين:
سأترك هذين الحمارين أمانة عندك، وسأرسل لك مرسالا لاستعادتهما.
على عينى يا ست.
أخذت عائشة من يدها، وسارتا مبتعدتين، ولوح «المراكبى» بيده فى حزن، ظل الهواء يحرك عباءتيهما السوداوين حتى اختفتا عن أنظاره.

لم تكن غيطان القصب بعيدة عن شاطئ النهر، كانت جرداء، تم قطع الأعواد المسكورة، وظلت جذورها متشبثة بالأرض، فى انتظار أن يتم إحراقها لتتحول إلى رماد أسود مشبع بالأملاح، ويشهد الرماد معجزة صغيرة حين تبرز من بين طبقاته رءوس خضراء جديدة، القصب الذى تم جزه كان مربوطا فى حزم متفرقة، كل واحدة مربوطة بأوراق القصب الطويلة الخشنة، كان يتم جدلها قبل أن تجف، جلستا وسط الحزم المتراصة، كان المكان خاليا من الناس، والقضبان الحديدية النحيفة تسير متعرجة عبر الحقل وتختفى عند حافة الأفق، ولم يستيقظ الخفراء بعد، وكانت هناك أشعة ضعيفة من الشمس وبعض من الدفء، قالت عائشة:
ــ أنا جائعة يا أمى، وأحس بالدوار.

شدت الأم أحد أعواد القصب ونزعت الأوراق التى تحيط به فى قوة، وكسرته إلى عقل صغيرة، لم تبال بالجروح الصغيرة التى أحست بها فى يدها، واستخلصت اللب الناصع البياض تقدمه لعائشة التى همست:
ماذا لو رأونا؟!
قالت الأم وهى تنزع اللحاء بأسنانها: سأتصرف معهم.

بدأت «عائشة» تمص القصب، أحست بالعصير المسكر فى حلقها، انتفض جسدها كأن مددا من الحياة ينساب داخل مسامها، بدأت الحركة تدب فى المكان، أمسكت الأم بيدها واختفتا خلف دغل صغير، ظهر بعض من عمال التراحيل وهم يتصايحون بعضهم على بعض، أخذوا يحملون حزم القصب ويضعونها قريبة من القضبان، ظلتا تراقبانهم فى صمت، وأخيرا دوى صوت صفارة حادة، ارتجت الأرض الساكنة، وحمل الهواء رائحة الدخان، ظهر القطار، لم يكن كبيرا كما اعتقدت «عائشة»، تتقدمه قاطرة سوداء اللون تتنفس كمية كبيرة من الدخان تفوق حجمها، ويجر خلفه عددا من العربات محملة كلها بالقصب إلا العربتين الأخيرتين، توقف القطار، وقفز السائل منه وأخذ يتحدث مع العمال فى صوت عال، بدأت عملية التحميل، كانت «عائشة» تتأمل كل هذا وهى مفزعة، هل يمكن أن يكون لها مكان وسط هذه الحزم الجارحة؟

بدأ المكان يخلو تدريجيا من حزم القصب، أنهى السائق حواره الصارخ مع العمال وبدأ يستعد للعودة إلى القاطرة، أطلق صفارة تحذير حتى يبتعد الجميع عن القضبان، بدأت العجلات تزأر فوق القضبان الصدئة، نظرت «عائشة» إلى أمها فى يأس، ولكن الأم كانت على استعدادا لأى نوع من المجازفة، جذبتها من يدها وأخذتا تعدوان معا نحو العربة الأخيرة، نظر إليهما العمال فى دهشة، صاح واحد منهما فى دهشة:
ــ ماذا تفعلان؟! ممنوع ركوب هذا القطار.

وقف بعض الرجال فى طريقهما، فردوا أذرعتهم ليقطعوا عليهم الطريق، فى هذه اللحظة ظهر الذئب، لا يدرى أحد من أين جاء، ولكنه أخذ يعدو بين سيقان الرجال كأنه هو أيضا يريد اللحاق بالقطار، ابتعد الرجال فى فزع، حتى الذين كانوا يسدون الطريق أخذوا يتقافزون مبتعدين، وزادت عائشة وأمها من سرعتهما، أمسكتا بالعربة الأخيرة، قفزت الأم أولا، ثم مدت يدها وانتزعت «عائشة» من الأرض، ضربتهما الأوراق الخشنة وملأت وجهيهما بالخدوش، ترك الذئب الرجال وأخذ يعدو بجانب القطار، ظل يواصل العدو حتى أصبح بجوار السائق، نظر إليه السائق فى فزع، وزاد من سرعة القطار، توقف الذئب وقد أنهى مهمته، وظل واقفا مفتوح الفم، متدلى اللسان، حتى بدت «عائشة» وهى تطل عليه وتلتقى بعينيه الحزينتين.

لم يتوقف السائق، لم تكن هناك حمولات إضافية من القصب، وظلت العربة الأخيرة تقعقع وهى ترتفع وتنخفض بهما، لم تكن الرحلة مريحة، وكان فزعهما يزداد كلما عبر القطار إحدى الترع أو الرياحات، لحظتها كانتا تشعران بأنهما معلقتان بالفراغ، لا توجد أى معالم تحيط بهما، كان فزع عائشة يزداد وهى تراقب المصارف المالحة أسفل القطار، وتتمنى ألا تموت مختنقة فى أى منها.

بعد سير طويل، بدا كأن النيل يتسع والجبل يقترب، وأصبح القطار يسير وسط حيز ضيق من الأرض المزروعة، زادت سرعته وهو ينحدر إلى أسفل، ظهرت البيوت الطينية والمآذن الحجرية من بعيد، وتنفست «عائشة» الصعداء أخيرا.
فى أسيوط يضيق الوادى، ويقترب الجبل ويمتلئ بالمطاريد، وتتشكل الصخور فتصبح أشبه بعمود فقرى، يربط الشمال بالجنوب، لذا فليس غريبا أن تبدأ فى أسيوط أولى محاولات الوحدة بينهما، وتغرس فيها أولى بذور الفتنة، مثلما انطمرت المومياوات، وقطع الفخار، وبقايا القلعة التى بناها الملك مينا.

لم يدخل القطار أسيوط، توقف فى ساحة واسعة خارجها، تتجمع فيها كل حزم القصب القادمة من مختلف مدن الصعيد، وتنتظر لتأتى قاطرة أكثر قوة، تحملها كلها إلى مصنع السكر فى الحوامدية، وسط زحام التدافع والتحميل، استطاعت الأم وعائشة أن تتسللا مبتعدتين، وظل السائق المذعور جالسا فى مكانه خوفا من أن يظهر له الذئب مرة أخرى.

سارت الأم بثقة فى شوارع أسيوط، هذه هى المرة الأولى التى ترى فيها «عائشة» مدينة بهذا الاتساع وكل هذه الحركة، وكانت الأم أكثر خبرة ودراية بالشوارع، تعرف المكان الذى تقصده وتتجه إليه من دون تردد، رغم التعب والإنهاك بدا أنها تسابق الزمن، سارت وهى قابضة على ذراع «عائشة» كأنها تخشى أن تضيع منها وسط زحام المارة والدكاكين والطباب والشحاذين، كانت الشوارع ترابية، غير مرصوفة، ممتلئة بالعربات التى تجرها الحمير والبغال، ويسير فيها الفلاحون والصعايدة والخواجات وجنود الإنجليز بملابسهم الكاكية اللون.

توقفنا أمام مبنى ضخم، من حجر ناصع البياض، يحيط به سور من أعواد الحديد، ويعلوه برج عال داخله جرس نحاسى متألق، كانت كنيسة، ولكنها فخمة ونظيفة وليست مثل الكنائس الطينية الموجودة على أطراف النجع، تنهدت الأم فى ارتياح، وظلت عائشة تحدق فى المكان وهى مبهورة الأنفاس، كانت هناك لافتة مكتوبة بخطوط سوداء، ولكنها لم تكن تعرف القراءة ولا الكتابة، هرعت الأم فى لهفة إلى البوابة الحديدية، كانت مغلقة، تشبثت بها وأخذت تهزها، صرخت تنادى: يا من هنا! ولكنها لم تتلق ردا، وفكرت عائشة هل هذه نهاية رحلتنا؟ هل نعود؟ ولكن الأم لم تكن لتستسلم بسهولة، ظلت تدور، تبحث عن ثغرة تنفذ منها، شاهدت فى الركن من داخل البوابة حبلا متدليا، أدخلت يدها بين الأعواد الحديدية وجذبته بكل قوتها، رن صوت جرس معدنى، أشبه بصرخة استغاثة وسط هذا الصمت، جذبته أكثر من مرة، وظل الجرس يواصل الطنين، توسلت عائشة إليها:
هذا يكفى يا أمى.
قالت الأم: يجب أن يعرفوا أننا هنا، وأننا نحتاج إليهم.
وأخيرا ظهر من آخر الفناء شخص قادم، شاب طويل القامة، له شارب كث، ويضع على رأسه عمامة صغيرة، بدت على وجهه علامات الانزعاج.

ماذا تريدان؟
قالت الأم: أتوسل إليك، لقد جئنا من سفر بعيد، وكل ما نريده هو أن نقابل الأم الرئيسة.
إنها مشغولة، ومن المستحيل أن أزعجها، ثم إنها لا تقابل أحدا من دون ميعاد.
وقبل أن تقول الأم أى كلمة إضافية استدار ووضع حبل الجرس بعيدا عن متناول يدها وانصرف مبتعدا، تقافزت الأم، وأخذت تنادى عليه، لم يلتفت خلفه حتى اختفى عن أنظارهما، صاحت الأم فى حنق وضربت الباب بقبضتها، قالت عائشة فى خوف:
هل سننصرف؟
قالت الأم من بين أسنانها:
من الذى تحدث عن الانصراف؟ سننام أمام البوابة.

جلستا على الأرض وظهرهما إلى القضبان الحديدية، وتأملها بعض المارة بنظرات عابرة، ظلت «عائشة» تنظر إلى وجه أمها، تنتظر منها تفسيرا لهذه الرحلة الشاقة، صعدت الشمس عاليا، ثم بدأت فى الهبوط، أحست عائشة بالجوع والعطش ولكنها لم تجرؤ على الشكوى، وكان المبنى صامتا، لا يصدر منه حس ولا حركة



الساعة الآن 09:57 PM