رواية يوم غائم في البر الغربي وهى قصة مسلسل وادى الملوك
سمعتا صوت أحد الأبواب وهو يفتح، نهضتا معا، لم يكن الصعيدى هو القادم هذه المرة، كان شخصا ضئيل الحجم، يرتدى عباءة سوداء، ويسير بطريقة غريبة، كانت امرأة، ثوبها الواسع منسدل على جسمها ويحف بالأرض، تضع ذراعيها أمام صدرها وقد أدخلت يدها فى كم اليد الأخرى، توقفت أمامهما ورفعت وجهها، تأملتها عائشة فى دهشة، كانت «خواجاية» ترتدى زى الراهبات، وجهها مستدير، مشرب بحمرة خجولة، وعينان زرقاوان واسعتان، نظرت إليهما من بين القضبان فى امتعاض، ولابد أنها حسبت أنهما شحاذتان قالت بهلجة عربية متكسرة:
ماذا تريدان؟.. لا يوجد ما نقدمه!
أمسكت الأم بالقضبان وهى تهتف فى توسل:
نحن فى عرضكم، جئنا من سفر بعيد ولا نستطيع العودة، سدت من خلفنا كل الطرق، ولابد أن إقبال السيدة الرئيسة.
ــ نحن لا نستقبل عابرى السبيل.
تراجعت الأمن قليلا، ثم أشارت لعائشة وهى تقول:
لا أفعل هذا من أجلى، ولكن من أجل هذه الصغيرة.
أدارت «الخواجاية» رأسها وتأملت عائشة، رأت علامات التعب والجوع وخيبة الأمن بادية بوضوح على وجهها، واصلت الأم القول:
إنها مهددة بالموت، ولو رددتنا من أمام هذا الباب فسوف تموت حتما.
بدا الفزع على وجهها وهتفت: صدقا؟..
ــ أقسم بالمسيح على ذلك
ترددت «الخواجاية» قليلا، أدخلت يدها فى فتحة ثوبها وجذبت خيطا مربوطا فيه مفتاح كبير، لا يمكن تصوره معلقا فى رقبة أحد، أدارته فى الباب، وساعدتها الأم بدفع البوابة من الخارج، وقفزت قبل أن يدعوها أحد للدخول. سارت «الخواجاية» فى المقدمة، وجذبت الأم عائشة حتى تلحقا بها، اتجهتا إلى المبنى الضخم الذى يعلوه البرج، دخلتا من الباب إلى قاعة رطبة معتمة، بدأت عائشة ترتجف، أشارت «الخواجاية» إلى مقعد خشبى مستطيل وهى تقول:
انتظرا هنا.
استندت عائشة إلى ظهر المقعد، كانت الجدران عالية، لا توجد فيها إلا نافذة قوية من السقف عليها زجاج ملون، هى مصدر الضوء الوحيد، مرسوم على الجدران صور غريبة، أشخاص، وبلدان وسفن ضخمة، كل شىء كان يترقبها فى جمود وصمت، أمسكت الأم بكتفيها حتى تتوقف عن الارتجاف، قالت بصوت بارد:
تماسكى يا بنت، وصلنا إلى نهاية رحلتنا، فلا تفسدى كل شىء.
أوشكت عائشة أن تبكى، قالت فى صوت مرتعد:
لا أدرى ماذا تنوين أن تفعلى بى؟
سأقول لك بعد أن ينتهى كل شىء.
توقفت عن الكلام عندما سمعت صوت خطوات قادمة، ظهرت «الخواجاية» وأشارت إليهما أن يتبعاها، سارا فوق أرض خشبية، نظيفة ولامعة كالمرآة، كانت الجدران أيضا مكسوة بخشب لامع، وكانت عائشة ترى انعكاس ظلها وهى تسير، توقفت أمام باب آخر مغلق، وطرقت الباب بلطف، ثم دخلت وهما خلفها، كان فى الغرفة أيضا نافذة وحيدة، وصلب ضخم معلق وصورة لامرأة تحمل طفلا، ومكتب ضخم يتوسط الغرفة، تجلس خلفه امرأة عجوز ترتدى هى أيضا زى الراهبات.
فوجئت عائشة بأمها تترك يدها وتنبطح بكامل جسمها على الأرض، ظنت «عائشة» أن جسد أمها قد خانها أخيرا، وأن تماسكها المؤقت قد انتهى، ولكن الأم فردت ذراعيها وضمت ساقيها ونكست رأسها حتى أصبحت على هيئة صليب، أصيبت الراهبة الموجودة خلف المكتب بالفزغ، نهضت، بدا جسدها أكثر ضخامة، قالت بلغة عربية تشوبها لكنة غريبة: ــ هذا لا يليق.. ارفعى رأسك وانهضى.
قالت الأم ووجهها مازال منكفئا
لا أستطيع يا سيدتى، ليس قبل أن تستجيبى لطلبى وتنقذى ابنتى.
نحن لا نفعل ذلك إلا أمام المذبح، لا أحد يسجد للبشر، انهضى وأخبرينى ماذا تريدين.
نهضت الأم ولكنها ظلت جالسة على الأرض، كانت الدموع الغزيرة تغطى وجهها، لا تدرى عائشة من أين أحضرتها، أشارت الأم إليها وهى تقول:
أريد أن تنقذى حياة ابنتى، الموت متربص بها.
نظرت المرأة إلى عائشة بوجهها الذى يشبه الوجوه المرسومة على جدران المقابر، قالت:
أى موت؟
نحن من أسرة مسلمة عريقة، ولكننا تنصرنا، اخترنا طريق المسيح..
شهقت الراهبتان، الكبرى والصغرى، فلم تسمعا شهقة عائشة، الأم وحدها هى التى ظلت متماسكة وهى تواصل الحديث:
كانت لحظة من نور يا سيدتى، جاءت سيدتنا العذراء ما بين الحلم واليقظة، وتجلت لى، ولم يكن أمامى إلا أن أتبع طريقها.
بدا القلق على وجه الراهبة العجوز، كانت القصة مبتذلة إلى درجة لا يمكن تصديقها، وشعرت الأم بذلك فالتفتت إلى عائشة وهى تقول فى حزم:
اكشفى عن ذراعك.
كان صوتها قد استعاد بعضا من نبرته المسيطرة، شمرت عائشة الثوب فبدا ذراعها المتورم، وبدت نقاط الصليب مغروسة فى الجلد، كانت بشعة ومؤلمة خصوصا بالنسبة لهذه الذراع الصغيرة.
ولأول مرة تدخلت الراهبة الصغيرة، قربت وجهها من الذراع الملتهب وهى تهتف: ــ ما كل هذا التورم والاحتقان؟!
قالت الأم: لقد حاول أهلنا سلخ الصليب من على جلدها، ولو لم نهرب لكانوا قد قطعوا الذراع كلها.
تراجعت الراهبة الصغيرة فى رعب وهى ترسم علامة الصليب على صدرها، ضمت يدها لصدرها وأخذت تبتهل فى صمت، وعيناها الواسعتان تلمعان فى شدة، قالت الراهبة الرئيسة:
أنتم فعلتم هذا الوشم بطريقة وحشية أيضا.. احفظنا يا رب..
وعلى الرغم من أن عائشة قد غطت ذراعها إلا أن تأثير المنظر ظل باقيا، لمست الأم ركبة الرئيسة بلمسة خفيفة وقالت بصوت خافت: أنقذيها يا سيدتى، ضميها إلى مدرستك، أعطيها الفرص لتتعلم وتنقذ حياتها فى الوقت نفسه.
قالت الرئيسة فى ضيق: ليست هذه مهمتنا، إننا مجرد مدرسة أمريكية فى أرض غريبة لا يجب أن نقحم أنفسنا فى المشاكل الداخلية، لا يوجد هنا إلا بنات الأسر القبطية، لا مكان عندنا لهاربات.
نظرت الراهبة الصغيرة إلى عائشة فى وقفتها الذليلة المنكسرة، لم تكن تعلم أن الأم قد أضنتها جوعا وسيرا حتى تبدو على هذه الهيئة، تقدمت الراهبة الصغيرة من الأم الرئيسة، تحدثت معها بلغة غير مفهومة، نظرت إليها الأم فى استنكار، خفضت وجهها فى خجل بالغ وعادت إلى ركن الغرفة، ولكن الأم أحست أن شيئا ما قد تغير، تنهدت الرئيسة وأشارت إلى عائشة وهى تقول:
ما اسمها؟
قالت الأمن فى سرعة: أطلقى عليها أى اسم، لم يعد اسمها القديم لائقا.
ألا يوجد معكما أى أوراق؟
فى نجعنا النائى لا توجد أى أوراق، نحن نولد ونموت دون أن يدرى أحد بوجودنا.
نظرت الرئيسة حولها فى حيرة:
أليس معكما أى حقائب أو ملابس؟
نحن هاربتنان يا سيدتى، لم نستطع أن نحمل أى شىء حتى لا نلفت الأنظار إلينا.
سكتت الأم الرئيسة، تأملت وجه الراهبة، والصليب المعلق، وأيقونة العذراء، ثم قالت:
لا أدرى ما أفعل (أشارت إلى الراهبة الصغيرة التى كانت تعض على شفتيها فى خجل) الأخت مرجريت تقول إننا يجب أن نساعد الأرواح الهائمة، ولكننا جئنا هنا لنساعد المسيحيين، ولا نريد أن نكون طرفا فى أى نزاع أو فتنة، وليس لنا شأن بالمتحولين ولا الهاربين، لا نريد أيضا أن نثير المسلمين ضدنا، هذه الابنة المسكينة قنبلة يمكن أن تقوض مهمتنا هنا.
قالت الأم:
جئت لأنقذ ابنتى، وليس لإثارة الشقاق، وجودها هنا سر.. سوف أحمله معى إلى القبر.