على مدى قرون طويلة كان يُشار إلى حالات طبيعية يمر بها بعض البشر على أنها ظواهر واضحة من ما وراء الطبيعة، ولعل أكثر تلك الحالات المحيرة والغامضة هي حالة الصرع وبالتحديد نوع من نوبات الصرع تسمى صرع الفص الصدغي التي يرمز لها إختصاراً بـ TLE ، وينبغي على كل محقق في الظواهر الغامضة أن يدرك تلك الحالة لكي يفهم ما يمكن أن تفعله من أعراض مثيرة جداً. وقبل أن نتناول تلك الحالة لا بد من فهم حالة الصرع وتاريخها ودور المعتقدات في تفسيرها.
ما هو الصرع ؟
ما نعرفه عن الصرع Epilepsy أو الإضطراب التشنجي أنه اضطراب في الدماغ يدوم عادة لفترة زمنية قصيرة يحدث خلالها تغيرات كهربائية مفاجئة في المخ تسبب بدورها تشنجات يفقد معها الجسم السيطرة على نفسه . ويعتقد أن الإغريق هم أول من وثق هذه الحالة حيث يعود أصل كلمة الصرع Epilepsy إلى كلمة Epilepsia (إبلبسيا) الإغريقية ، والتي تعني "الشد" أو "الإمساك" ، وكان أول تدوين لهذه الحالة في كتاب " المرض المقدس " لـ أبوقراط في القرن الخامس ما قبل الميلاد.
دور المعتقدات من القوى الخفية والأرواح الشريرة
الصرع مرض قديم معروف عبر التاريخ وبسبب أعراضه السريرية المختلفة و " غير العادية " و " العنيفة والمخيفة " في بعض الأحيان أعطى القدماء للصرع تعليلات عديدة "ما روائية" أو " فوق طبيعية " تثير الخوف من هذا الداء و النفور من المصابين به.
فمن جهة ذهب اليونانيون لاعتباره من صنع قوى خارقة إلهية، و أطلقوا عليه اسم المرض المقدس أو الإلهي. فكان مريض الصرع يعالج معالجة خاصة، إذ يؤخذ للمعبد فيغسل و يدهن بالعطور و الزيوت و يؤمر بالصيام، و أداء طقوس خاصة و تقديم القرابين للآلهة الناقمة لكي تصفح عنه (كما كان يتم في معبد اسكوليبوس). وبنفس المنحنى اعتقد اليهود أن عدداً من الأمراض، و من ضمنها الصرع والجنون، ما هي إلا عقاب للمذنبين، و بالتالي كان على المريض أن يكفر عن آثامه و يطلب التوبة سعيًا للشفاء.
من جهة أخرى اعتقد آخرون أن المسبب للصرع هي قوى شريرة تسيطر على المريض و تلغي إرادته، و بالتالي يتمثل العلاج في مساعدته على التخلص من هذه القوى و طردها من داخله فهنود قبائل الأنكا مثلاً كانوا يقومون بإحداث ثقوب في جمجمة المريض بهدف إخراج الشياطين و الأرواح الشريرة منها.
مرض العظماء
كان يعاني من داء الصرع الملوك والنبلاء حتى أطلقوا عليه قديماً " مرض العظماء "، فالقائد الشهير الإسكندر الأكبر واحد من أشهر المصابين بالصرع عبر التاريخ و يوليوس قيصر أحد أكثر الرجال نفوذًا في التاريخ كان أيضاً من المصابين بمرض الصرع، و كذلك القائد القرطاجي الشهير هانيبال.
الملك ألفريد الأكبر الذي مهد للوحدة الإنجليزية، و الذي تصدى لهجمات قبائل " الفايكينج " المتتابعة على شمال أوروبا كان أيضًا مصابًا بالصرع، و رغم ذلك لم ينقذ بريطانيا من الإبادة سوى عبقريته و القائمة تطول.
ومن الأدباء والمفكرين نذكر الفرنسي موليير رائد الفكر الغربي ، والإيطالي دانتي صاحب " الكوميديا الإلهية " ، والأمريكي إدغار ألان بو رائد أدب الرعب، والإنجليزي ولتر سكوت و جوناثان سويفت صاحب رواية "رحلات جاليفر " الشهيرة . ولويس كارول صاحب " أليس في بلاد العجائب " ، والروائي الفيكتوري الكبير تشارلز ديكنز و وثلاثة من أعظم شعراء الإنجليز وهم لورد بايرون وبيرسي شيلي وألفرد لورد تنيسون. والروائي الروسي دستوفسكي . ومن المشاهير أيضاً الفنان الهولندي فنسنت فان غوخ .
ما نعلمه عن الصرع أنه يشمل زيادات مكثفة من النشاط الكهربائي في مناطق مختلفة من الدماغ وهي مناطق مسؤولة عن شعورنا بأجسادنا وعن التحكم بوظائفها إضافة إلى أنها بيت لذكرياتنا وأحاسيسنا . يقول د. ديفيد بير أخصائي الطب النفسي أن النشاط الغير عادي للدماغ الملاحظ في صرع الفص الصدغي TLE يمكن له أن يلعب دوراً في التفكير الإبداعي وصناعة الفنون عبر توحيد الحس والبصيرة والحرص الإنتقادي المؤدى ببراعة.
تطور فهم المرض
ورد ذكر الصرع في النصوص الإغريقية القديمة و في الإنجيل ، لكن لابد أن نذكر أن عدداً من الأطباء القدماء، بدءًا من أبوقراط و وصولاً لأعلام الطب الإسلامي، كابن سينا و الرازي قابلوا هذه التفسيرات غير الطبيعية للصرع بتفسيرات علمية من حيث المبدأ، أي على أنها حالات تنجم عن اضطراب دماغ الإنسان و عقله، و بالتالي توجهوا في علاجهم نحو "تهدئة الدماغ و تطمين العقل" بل و " زرع الثقة في نفس المريض " ، ولكن حتى هؤلاء بقوا يضعون الصرع في نفس مجموعة الأمراض العقلية المعروفة بالجنون، مثلهم في ذلك مثل بقية الأطباء في ذلك الوقت، و لذلك بقي الجنون أحد المعاني المتداولة للصرع.
في الصورة يظهر طبيبان يقومان بعلاج مريض بالصرع (القرن الثاني عشر) حيث كان العلاج المعروف في ذلك الحين هو الكي أو التربنة (فتح الجمجمة)، و هما العلاجان اللذان يتلقاهما المريض في هذه الصورة.
و لم تكن هناك دراسات جادة إلا في أواسط التاسع عشر، إذ كان السير تشارلز لوكوك أول من أوجد المسكنات التي ساعدت على التحكم بالنوبات في عام 1857.
و في عام 1870 قام جون جاكسون بتحديد الطبقة الخارجية للمخ، أي القشرة المخية، و عرّفها بأنها ذلك الجزء المعني بالصرع. و أوضح هانز برجز في عام 1929 بأن هناك إمكانية لتسجيل نبضات المخ البشري الكهربائية، فيما يعرف برسم المخ الكهربي EEG.
وفي وقتنا الحاضر، نجد أن الأبحاث الطبية قد تقدمت فيما يتعلق بتشخيص و علاج مرض الصرع تقدمًا ملحوظًا، حيث تم تسجيل نوبات الصرع و النوبات الأخرى على أشرطة الفيديو، و ذلك باستخدام الدوائر التلفزيونية المغلقة، و تسجيل تخطيط المخ الكهربائي عن طريق الأجهزة، مما أدى إلى تفهم الأنواع المختلفة من النوبات تفهماً عميقاً.
أنواع النوبات والأمراض
هناك أكثر من 40 نوع مختلف من أمراض الصرع لكن منها أطوار مميزة ثابتة في النوبات يبلغ عددها 3 (جزئية بسيطة، جزئية مركبة ، شاملة) قد لا تكون متواجدة جميعاً في نفس المرض ، تصنف هذه الأطوار (نوبات الصرع) كنوبات جزئية أو شاملة من خلال منشأ فعالية النوبة وأعراضها السريرية المتعلقة بها كما يلي :
1- النوبة الجزئية البسيطة
تتحرك فيها عضلات المريض لا إرادياً ، وهي حالة حسية-جسدية واضحة بدون ضعف في الوعي.
2- نوبات جزئية مركبة
يكون وعي المريض ضعيفاً سواء مع حدوث أعراض النوبة الجزئية البسيطة أو عدم حدوثها.
3- النوبة الشاملة
يفقد المريض خلالها وعيه ببشكل كامل مع سلوك متشنج أو غير متشنج ولها أنواع وهي نوبة التوتر والإرتجاف المتناوبة Tonic-Clonic ونوبة الإرتجاف Myoclonic ونوبة الوهن Atonic ، ونوبة الغياب Absense.
- ويمكن للنوبة الجزئية البسيطة أن تتطور إلى نوبة جزئية مركبة كما يمكن أيضاً للنوبة الجزئية المركبة أن تتطور بدورها إلى نوبة شاملة .
- تؤثر النوبات على مختلف الاعمار ، وتعرف معظم حالات الصرع في مرحلة الطفولة . ويكون عدد من أنواع النوبات مرتبط تحديداً بالأطفال.
وفيما يلي نذكر 8 من أهم أمراض الصرع :
1- نوبة توتر-ارتجاف الشاملة ( النوبة الكبرى )
أ- يمكن أن يسبقها حالة شعورية نسميها النسمة أو aura مثل شعور بالغرابة أو الدوخة ثم يليها بداية نوبة مفاجئة مع فقدان للوعي.
ب- تقلص واضح في العضلات في طور التوتر tonic phase يثبت الفك والأيادي ، والاعين مفتوحة وحدقاتها واسعة وتدوم من 30 إلى 60 ثانية.
ج- تناوب من الانقباض والارتخاء في كل العضلات يحدث في طور الإرتجاف clonic phase مع سلس البول و زبد من الشفاه وقد يؤدي إلى عض اللسان أو الخدود ويدوم لعدة دقائق.
د- نوم أو حالة دوار تمتد لعدة ساعات.
2- نوبة الغياب ( النوبة الصغرى)
أ - فقدان التواصل مع المحيط يدوم من 5 إلى 30 ثانية.
ب- يبدو كأنه حلم يقظة أو تتحرك العينين فيه ، مع إيماءات من الرأس وتحريك الأيدي أو ضرب الشفاه.
ج - العودة إلى النشاط الطبيعي وعدم الوعي بما حدث خلال النوبة.
3- نوبة الإرتجاف (التشنج الطفولي) Myoclonic
أ- يشاهد هذا النوع عند الأطفال والرضع ويرجع سببه إلى مرض دماغي يترافق غالباً مع تخلف عقلي.
ب- تختفي عادة في سن 4 ولكن قد يتطور إلى أنواع أخرى من النوبات.
ج - تقلصات مفاجئة وقوية للعضلات عند جذع الرقبة وعند نهايات الأطراف.
د - النمط المسترخي : يباعد الرضيع برأسه وذراعيه للخارج ويحني جسمه للخلف كأنه في وضعية " نسر يفرد جناحيه " .
هـ - يمكن أن يحدث مزيج من النمطين المسترخي والقابض بشكل متناوب أو على شكل دفعات.
و - يمكن لهذا النوع أن يجعل الطفل يوقع أو يرمي شيئاً .
ز - يمكن للرضيع أن يصرخ أو ينخر أو يكشر أو يضحك أو يبدو مرعوباً كأنه تعرض لهجوم.
4- نوبة الحركة الجزئية (المركزة )
أ - تقلص منتظم (له إيقاع) في مجموعة من العضلات ويكون مركزاً عادة في اليد والوجه.
ب- قد ينتشر ليشمل الطرف بكامله أو نهايته والوجه على نفس الجانب ويعرف ذلك بنوبة جاكسونيان.
5- النوبة الحسية الجزئية (المركزة)
أ - خدر أو تنميل في جزء محدد من الجسم .
ب- يمكن أن يشمل أيضاً حاسة البصر أو التذوق أو السمع أو الشم أو تتغير الأشياء التي يراها أو يسمعها أو يشّمها أو يشعر بها.
6- نوبة الفص الصدغي الجزئية TLE
أ- قد تكون حالة إزعاج في البطن أو رائحة سيئة أو تذوق سيئ.
ب- حدوث هلاوس سمعية وبصرية ، أو إحساس بالديجافو أو إحساس بالخوف والقلق.
ج- قد تحدث حركات متكررة لا هدف لها (أو تلقائية) مثل توجيه الأيادي نحو الثياب أو صفع الشفاه أو المضغ أو التكشير.
د- تدوم من ثوان إلى عدد من الدقائق.
7- النوبة الجزئية المركبة
تبدأ كنوبة جزئية ومن ثم تتطور إلى ضعف في الوعي .
8- النوبة الحُميّة
أ- هي عبارة عن نوبة توتر-إرتجاف tonic-clonic شاملة تترافق مع حمى وتصل درجة الحرارة إلى أكثر من 38.7 درجة مئوية.
ب- تحدث لدى الأطفال الذين تقل أعمارهم عن 5 سنوات.
ج- تقتصر المعالجة على التخفيض من درجة الحرارة ومعالجة منشأ الحمى والتحكم بالنوبة.
د- ما زال العلاج الطويل الأمد لوقف النوبات المتكررة المترافقة بالحمى مثيراً للجدل.