[class=Apple-style-span]صوتها جمع أعلى درجات الاختلاط بين الأنوثة والذكورة فكان سبباً رئيسياً في تفردها[/class]
<font class="Apple-style-span">
في مقابلة إذاعية مع الموسيقار محمد عبد الوهاب، تشعب الحديث إلى تقييم عبد الوهاب لصوت أم كلثوم، فقال أنه صوت نادر كان يتمتع بمزايا عديدة، تكفي كل مزية منها لتجعل من صاحبتها مطربة عظيمة، فكيف إذا اجتمعت هذه المزايا لصوت واحد.
هذا الرأي الذي صدر عن مرجع هام في الموضوع، كان بينه وبين أم كلثوم تاريخ طويل من المنافسة، كما أنه صادر عن خبير وعن صاحب تجربة في التلحين لأم كلثوم والتعامل مع صوتها عبر عشرة ألحان تضمنت كل ألوان الغناء العربي، نستكمله بتحليل مفصل بدقة علمية موضوعية في هذا المجال، نستقيه من مقالين مخصصين لتحليل حنجرة أم كلثوم علميا، الأول للناقد الكبير كمال النجمي في كتابه «الغناء المصري»، والثاني لسليم سحّاب، المتخصص في قيادة الكورال الأكاديمي، وقيادة الأوركسترا السمفونية والأوبرا من كونسرفاتوار تشايكوفسكي بموسكو.
يقول كمال النجمي في تحليل كتبه في نهاية العام 1967 أو مطلع العام 1968:
«إن صوتها ينتمي إلى القسمين الثاني والثالث من أقسام الأصوات النسائية الثلاثة، وهما الكونترالتو والميتسو سوبرانو، ويسمي المجمع اللغوي هذين القسمين في مصطلحاته العربية «الرنان» و»الندى الثاني».
أما القسم الأول من الأصوات النسائية وهو «السوبرانو»، واسمه المجمعي «الندى الأول»، فأن النقاد الموسيقيين يرون أن صوت أم كلثوم كان يبلغه في العشرينيات، عندما كانت في مرحلة الدربة والتكوين، فلما اكتمل تدريبا وتكوينا استقر على القسمين الثاني والثالث، وهما أغلظ نبرات من القسم الأول وقد اتفق الموسيقيون المصريون، منذ سمعوا أم كلثوم، على أن صوتها يمتد على مساحة ديوانين (المحرر: الديوان هو «الأوكتاف» في المصطلحات الأوروبية)، فبلغ ستة عشر مقاما تقريبا، وهي مساحة واسعة غنية بألوان الجمال الصوتي الباعث على الطرب والدهشة.
ليس معنى ذلك أن هذا هو أقصى ما بلغه صوت مطربة من المطربات في عصر أم كلثوم أو قبل عصرها. فقد حدثنا الموسيقيون عن أصوات واسعة المساحة جدا، منها مثلا صوت مطربة القرن التاسع عشر ألمظ، ومنها كذلك – إلى حد ما- صوت منيرة المهدية مطربة الربع الأول من القرن العشرين (المحرر: ومنها أيضا صوت فتحية أحمد).
ولكن المساحة التي يشغلها صوت أم كلثوم هي مساحة من الأزهار والأثمار والمياه الصافية والأنسام والظلال، بعكس المساحة التي تشغلها أو كانت تشغلها بعض الأصوات الضخمة، فهي مساحة من الرمال أو المياه الضحلة والنباتات العقيمة.
وقد أكد لي بعض مخضرمي الموسيقيين أنه سمع أم كلثوم في العشرينات تؤدي جواب الجواب في نغمة السيكا. معنى ذلك أن صوت أم كلثوم كان يبلغ حينذاك سبعة عشر مقاما سليما.
(..) إذا تجاوزنا أقسام الصوت ومقاماته وجواباته إلى ذبذباته والنسبة بين مقاماته، ورخامته وصلصلته ونعومته وجزالته وجهارته وخفوته، رأينا إعجازا فذا، كأنه صوت مرسوم بطريقة هندسية يبهر من براها ويسمعها في وقت واحد.
وقد أحسن كمال النجمي في تجاوز حساب المساحات في صوت أم كلثوم، لأن هذه المساحات ليست سوى عنصر من عناصر تكوين الصوت، وقد تكون هذه المساحات (مهما اتسعت) في حالات معينة مفتقرة إلى الجمال، كما أن صاحبها يمكن أن يكون مفتقرا إلى موهبة حسن إدارة هذه المساحات واستخدامها بجمال وذوق وإحساس مرهف.
ننتقل بعد ذلك إلى الرأي التحليلي لسليم سحّاب، الذي يعتمد بعض ما اعتمده كمال النجمي من معايير، ولكنه يضيف إليها مقارنة بأصوات مغنيات الأوبرا الشهيرات في الغرب، علما بأن دراسته الأكاديمية أتاحت له الاستماع (في سبعينيات القرن العشرين) إلى أصوات جميع مغني ومغنيات الأوبرا في العالم منذ ولادة الاسطوانة وحتى ذلك التاريخ، وتحليل هذه الأصوات على يد كبار الأساتذة الروس.
يعيد سليم سحّاب عظمة حنجرة أم كلثوم وتميزها الاستثنائي إلى ستة عوامل، نعرضها فيما بقي بشيء من الاختصار:
المساحة الصوتية: بالرغم من أن مساحة صوت أم كلثوم تعتبر واسعة (ديوانان كاملان) إلا أن المهم في صوتها ليست مساحته، بل موضع هذه المساحة بين الأصوات البشرية. فمنذ العشرينات لغاية وفاتها، كانت مساحة صوت أم كلثوم تتداخل مع مساحة الأصوات الرجالية. وإذا أخذنا مثالا على ذلك دور زكريا أحمد “مين اللي قال” عند كلمات “راح العذول ما لوش أثر” (الثلاثينيات) أو أغنية يا ظالمني لرياض السنباطي (تسجيل بيروت في منتصف الخمسينيات) وعند كلمة “وهجرانك” في عبارة “بكاس صدك وهجرانك”، نرى أنها تصل بصوتها إلى مقام يقع في وسط مساحة صوت الباريتون الرجالي “ري بيمول” (..) وإذا عرفنا أن الباريتون هو الصوت الرجالي المتوسط بين فئات الأصوات الرجالية الثلاث (الفئة الأولى الباص، وهو أغلظ فئة من ناحية الصوت، والفئة الثالثة هي التينور وفيها المقامات الأعلى من الصوت الرجالي، وفي الوسط فئة الباريتون المذكورة) نعرف مدى عرض مساحة صوت أم كلثوم، ومدى تداخله مع فئة الأصوات الرجالية.
التملك من الصوت: الأهم من مساحة صوتها هو التملك المطلق بهذه المساحة، فأم كلثوم بتملكها العجيب هذا، كانت تؤدي جملا غنائية في غابة الصعوبة التقنية وإلى جانب هذا فان الزخرفات والتحليات الغنائية التي كانت تؤديها، كانت تصل حد الإعجاز. ولنتذكر في أغنية يا ظالمني (في التسجيل المذكور)، عند كلمات “عشان تعطف علي يوم” كيف تزخرف كلمة “عشان” عند الوصول بالارتجال إلى نغمة الهزام. هذه الزخرفات صعبة حتى على آلة طيعة مثل الكمان، فكيف بالصوت البشري.
القوة الصوتية: إن القوة الصوتية الموجودة في غناء أم كلثوم، أصبحت منقرضة في عصر الميكروفون. ويكفي أن نقول بأن الغناء المعتمد على التقنية العلمية الكاملة للغناء يعتمد على استخدام الحجاب الحاجز ( ديافراغم) في ضغط الهواء الصاعد، بدلا من الضغط المباشر على الحنجرة، الذي يشكل ضغطا على الحبال الصوتية بقدر بضغطين جويين ونصف. وعندما نعلم أن غناء أم كلثوم يعتمد أساسا على الحنجرة، نستطيع أن نقدر كمية الضغط الهائلة التي كانت تتحملها احبال حنجرتها في أثناء الغناء. وأذكر حين حضرت حفلها في بيسين عالية (التي غنت فيها حيرت قلبي معاك للسنباطي، في العام 1962)، أذكر أن الميكروفون كان بعيدا عنها حوالي متر، وأعلى منها بنصف متر. وأذكر أيضا أنها حين كانت تغني على الطبقات العليا، كانت ترجع إلى الوراء حوالي المتر الإضافي.
المقدرة: كانت أم كلثوم تغني حوالي أربع ساعات (المحرر: في بعض حفلاتها، لا كلها). فإذا عرفنا أن الساعات الأربع هي مدة أطول الأوبرات في تاريخ الغناء الأوروبي، وأن أطول دور غنائي كامل في هذه الأوبرات لا يتعدى الأربعين دقيقة على مدى الساعات الأربع، وأن أطول مرحلة منفردة لا تتعدى 15 دقيقة، نستطيع أن ندرك مدى هذه الظاهرة الصوتية، التي كانت تغني أربع ساعات، موزعة على مدى ست ساعات.
الاستمرار في الغناء
الاستمرار في الغناء: إلى كل هذا نضيف أن أم كلثوم غنت على مدى ستين سنة متواصلة (المحرر: من 1913 حتى 1973، وربما بدأت الغناء قبل ذلك بسنوات). إن هذه الاستمرارية هي الأولى في تاريخ الغناء في العالم، إذ لغاية اليوم، لا يوجد في تاريخ الغناء حتى إشارة (ولو من بعيد) إلى مغن (أو مغنية) استمر في الغناء هذه المدة الطويلة. فالغناء الأوروبي لم يعرف مغنيا (أو مغنية) استمر في الغناء أكثر من أربعين عاما.
النظافة الصوتية: نصل الآن إلى صفة معجزة حقا في صوت أم كلثوم: فقد أقيمت في القاهرة سنة 1975 (المحرر: أقيمت التجربة في العام 1974، وقدمت إذاعة صوت العرب عرضا لها في 5-1-1975) (5) تجربة علمية على آلات الكترونية لقياس مدى النظافة والنشاز في الأصوات الغنائية المصرية المعروفة وكانت النتيجة مذهلة. فبعد قياس الكثير من أغنياتها (منذ بدايتها حتى اعتزالها) تبين أن نسبة “نشاز” صوت أم كلوم لا يتعدى في أقصى حالاته نسبة واحد في الألف من البعد الطنيني الكامل.
فإذا عرفنا أن أقصى ما يمكن أن تميزه الأذن البشرية هو “واحد على تسعة” من الطنين الكامل، أدركنا أن الدقة في حنجرة أم كلثوم تصل حد الإعجاز البشري بالمعنى العلمي للكلمة.
وإذا كان هذان التحليلان يلقيان أضواء كاشفة على الآلة الأساسية في غناء أم كلثوم: “حنجرتها”، فأن من الضرورة بمكان استكمال وصف بقية الآلات التي تكوّن الجهاز الصوتي الضخم لدى أم كلثوم. فما من شك- أولا- أن حبال أوتارها الصوتية كانت ذات تكوين قوي، بدليل تحملها الغناء لساعات مطولة تفوق الوقت العادي للغناء عند سائر المغنين في الشرق والغرب، وبدليل امتداد جهد أم كلثوم الغنائي (كما أسلفنا) على ستين عاما ونيف. وقد روى ابن الدكتور حسن الحفناوي (زوج أم كلثوم) أنه رافقها في إحدى رحلاتها العلاجية للخارج، واستمع إلى دهشة الأطباء من الحجم الاستثنائي لحنجرة أم كلثوم، وتركيب أوتار هذه الحنجرة. غير أني انقل هذه الرواية بشيء من التحفظ، لأني لست واثقا من علاقة التكوين الفزيولوجي الاستثنائي للحنجرة، بالأداء الاستثنائي لهذه الحنجرة، مع ترجيحي المنطقي لوجود مثل هذه العلاقة، خاصة وأن الممارسة العملية لأم كلثوم على مدى حياتها ترجيح هذا الاستنتاج.
ولا بد أيضا من الإشارة إلى ضخامة وقوة الجهاز التنفسي لدى أم كلثوم المؤلف من الحجاب الحاجز (دافع الهواء) والرئتين (خزان الهواء)، فكثير من الجمل الطويلة الموزعة على مقاطع أغاني أم كلثوم في كل مراحلها، ومن الجمل المتطرفة في ارتفاعها إلى جوابات عالية، والمتطرفة في انخفاضها إلى قرارات منخفضة، تحتاج إلى كمية هائلة من الهواء، وإلى خبرة وتمرس في حسن استخدام هذا الهواء (شهيقا وزفيرا) حتى يحصل المغني والمستمع على النتيجة المدهشة التي كانت تحصل عليها أم كلثوم ومستمعوها، والتي تجمع بين الحد الأعلى المتاح من الدقة، والحد الأعلى من المتعة الفنية.
نكتفي بهذا القدر من التحليل العلمي لمختلف عناصر الأدوات الغنائية لأم كلثوم، وننتقل إلى الجانب الأهم، الجانب الجمالي في أدائها، الذي ما كان يمكن له أن يتحقق إلا بقدرات في الأداء، تستخرج من تلك الآلة الغنائية، أقصى ما يمكن من فنون الغناء الشيق الممتع، الذي يستولي على الألباب، ويرفع نشوة المستمع إلى ذرى عالية. فإذا انطلقنا من المواصفات العلمية لصوت أم كلثوم بمختلف أدواته، إلى رحاب المواصفات الجمالية لذلك الصوت، ولأداء أم كلثوم الغنائي، فإننا سنتوقف عند أكثر من عنصر من عناصر ذلك الأداء، مستكشفين كل عنصر منها، عبر المراحل الطويلة والمتحولة في فن أم كلثوم: الأنوثة والذكورة والكلاسيكية
إذا كان هنالك إجماع على أن صوت أم كلثوم كان أعظم الأصوات النسائية العربية في القرن العشرين وأقدرها، فإننا عندما نطرح سؤالا آخر عن أكثر الأصوات النسائية العربية أنوثة ورقة، نخرج من الإجماع إلى مجموعة من الآراء، تتفق على استبعاد صوت أم كلثوم من طليعة هذا التصنيف، ولكنها تختلف في طرح عدد من الأسماء، يأتي في طليعتها صوت أسمهان ثم صوت ليلى مراد، ثم تتوزع الآراء بعد ذلك على أصوات أخرى مثل نور الهدى وفايزة أحمد ونجاة الصغيرة وفيروز وأحلام (صاحبة «يا عطارين دلوني»
. والحقيقة أن هذه المسألة مطروقة دائما في الحوارات الشفهية بين النقاد والمتخصصين، وحتى بين المثقفين عامة، غير أنها نادرة في مجال النقد المكتوب، ربما لأن من يحملون رأيا ما في هذه المسألة، يتحرجون من أن يكون مثل هذا الحوار انتقاصا من قيمة صوت أم كلثوم. غير أن مثل هذا التحرج لا مجال له في أي تحليل موضوعي
فلو نحن عدنا إلى تفاصيل التحليل الذي أوردناه أعلاه نقلا عن سليم سحّاب، لفت نظرنا الملاحظة العلمية التي تشير إلى أن أم كلثوم وصلت في كلمة «وهجرانك» (من عبارة بكاس صدك وهجرانك، في تسجيل مسرح قصر الأونيسكو ببيروت لأغنية «يا ظالمني»، في منتصف الخمسينيات) وصلت إلى درجة منخفضة جدا، توازي نصف المساحة بين الدرجة الأشد ارتفاعا والدرجة الأشد انخفاضا في فئة صوت الباريتون الرجالي. معنى هذا الكلام، بلغة العلم، أن هذه الدرجة المنخفضة لم تكن بعيدة عن الدرجة الأعلى في فئة صوت «الباص» الرجالي. وهذه واقعة استثنائية عندما يكون الحديث عن صوت نسائي، لا بد من التوقف عندها، واستجلاء أمرها.
خصائص الصوت
الملاحظة الأولى التي تستدعيها هذه الحقيقة في درجات صوت أم كلثوم، أن هذا الصوت النسائي كان يمتلك مساحات منخفضة يندر أن تتوفر لأي صوت نسائي آخر، الأمر الذي يعتبر غنى فاحشا في مساحات هذا الصوت، أحسنت أم كلثوم استخدامه، ليس فقط في ذلك التسجيل البيروتي لأغنية يا ظالمني (وأن كان بالإمكان اعتبار هذا التسجيل نموذجيا) ولكن في عدد آخر من أغنياتها، مما يضاعف المقدرة التأثيرية لصوت أم كلثوم على المستمع، لاتساع مساحة جماليات الأداء الصوتي الناتج عن تلك الطبقات المنخفضة النادرة في أصوات النساء.
ولنتذكر على سبيل المقارنة بأن نقطة الضعف الوحيدة في صوت أسمهان العظيم كان افتقاره إلى اتساع المساحات المنخفضة في صوتها، ولعل أفصح الأمثلة العملية على ذلك القفلات المنخفضة الضعيفة في أغنيتها الرائعة (من ألحان فريد الأطرش) «رجعتلك يا حبيبي».
إذن، من المؤكد أن هذا الانخفاض الاستثنائي في القرارات الصوتية لحنجرة أم كلثوم، كان مصدر غنى مؤكد لصوتها ولأدائها الغنائي، ولكن من المؤكد أيضا أن ذلك الغنى الاستثنائي في الدرجات المنخفضة للصوت والواضحة الغلظة، كان على حساب الطبيعة الأنثوية لهذا الصوت.
ومن الأهمية في هذا الصدد ملاحظة هذه المسألة في صوت أم كلثوم عندما تتحدث، وليس فقط عندما تغني. حتى أن الموسيقار كمال الطويل يروي في أكثر من مناسبة حميمة (وفي حديث مباشر لي في بيروت) أنه في كل مرة كان يتلقى مكالمة هاتفية من أم كلثوم، كان متلقي هذه المكالمة (كمال الطويل أو أي من أفراد أسرته) يعتقد للوهلة الأولى أن المتحدث على الطرف الآخر من الهاتف هو رجل. ويبتسم كمال الطويل عند رواية هذه الواقعة، ويؤكد أن أم كلثوم كانت تكتم غيظها من الخلط بين صوتها في الهاتف وصوت الرجال، ولكنها كان تعالج المسألة دائما بخفة ظلها وسخريتها المعروفة.
ولا ندري إذا كان هذا الأمر مجرد حالة فيزيولوجية محضة، أم أن إخفاء الأنوثة في شكل أم كلثوم لسنوات طويلة في العقدين الأولين من عمرها بارتداء الملابس الرجالية (في مجتمع محافظ يعتبر غناء الأنثى عورة لا بد من إخفائها) قد أوجد مفعولا نفسيا كان له أثر ما على حنجرة أم كلثوم.
على أي حال، وبعد أن قلبنا هذه المسألة على مختلف وجوهها، نعود إلى الخلاصة العامة التي يمكن أن نوجزها بأنه إذا لم يكن صوت أم كلثوم صارخ الأنوثة (كما في الأصوات النسائية التي استعرضناها أعلاه)، فانه لم يكن حتما يفتقر إلى القدرة على التعبيرات الناعمة في الأداء، عندما يتطلب ذلك المعنى أو اللحن. وتسجيلات أم كلثوم مليئة بأمثلة لا حصر لها في هذا المجال، غير أنها مليئة أيضا بنماذج كانت أم كلثوم تبدو فيها شديدة الاعتداد بالقوة الخارقة في صوتها، فنضغط على مكامن هذه القوة بما يتجاوز الخط الأحمر.
إن اختلاط ملامح الأنوثة والذكورة في صوت ذي مساحات استثنائية مثل صوت أم كلثوم، قد رفعه إلى مستوى من الكلاسيكية المحايدة، والمرتفعة فوق مثل هذه التصنيفات الفيزيولوجية، ولعل ذلك كان أحد أسباب التفرد الذي كان يتميز به صوت أم كلثوم، عن كل مطربات القرن العشرين، حتى صاحبات الأصوات الممتازة، فهو بين كل هذه الأصوات، كان الأعظم والأقدر.
الحـــدة والليـــونـــة
إن استماعا متأنيا يستعرض كل ما سجلته أم كلثوم بصوتها، منذ العشرينيات وحتى السبعينيات، يجعلنا نلمس لمس اليد أن صوت أم كلثوم قد مر بمراحل عديدة، قبل أن يصل إلى ذروته الذهبية، في عقدي الأربعينيات والخمسينيات. وإذا كنا في صفحات سابقة قد أفضنا بعض الشيء في وصف التحولات التي طرأت على صوت أم كلثوم في العقد الأخير من رحلتها الفنية، فلاحظنا التراجع المتدرج للطبقات العليا في صوتها، والاختفاء المتدرج للمساحات التي تتميز باللمعان والبريق، فحري بنا أن نتوقف هنا عند العقد الأول من مسيرتها الفنية، أي مرحلة ما قبل ظهور رياض السنباطي في حياتها الفنية.
لقد تميز صوت أم كلثوم في النصف الأول من هذا العقد (عندما كانت تغني قصائد الشيخ أبو العلا محمد الأولى وألحان النجريدي وأوائل ألحان محمد القصبجي) بحدة جارحة، وعلى شيء من الخشونة، أو من انعدام الليونة. ويبدو أن ذلك يعود لأكثر من سبب:
الطبقات العليا
السبب الفيزيولوجي البحت الذي يجعل الحدة، خاصة في الطبقات الصوتية المرتفعة، تطبع الصوت بطابعها في العقدين الثاني والثالث من العمر.
أسلوب الغناء الذي كان ما يزال سائدا في الربع الأول من القرن العشرين، كامتداد طبيعي لأسلوب القرن التاسع عشر، والذي كان يعتبر استعراض الطبقات الصوتية ذروة التميز الفني في الغناء. وبما أن الله قد حبا أم كلثوم بمساحات صوتية واسعة، كانت الطبقات العليا هي الغالبة عليها في سنوات عمرها الأولى، فقد كانت قلة خبرة أم كلثوم، واندفاعها وراء الرغبة في إثبات أهمية مساحاتها الصوتية في مواجهة كل الأصوات النسائية التي تنافسها، سببا إضافيا في إطلاق العنان لتلك الطبقات العليا الحادة، من غير ضوابط أو كوابح.
لا شك بأن ملحني أم كلثوم الأوائل قد افتتنوا، كل على طريقته ووفقا لأسلوبه التلحيني، بالمقدرة الصوتية الاستثنائية لأم كلثوم، المتمثلة في تلك السنوات في طبقاتها الصوتية العليا، فأخذوا يطلقون العنان لتلك الطبقات في ألحانهم، مما أوجد حالة لحنية- غنائية متكاملة تدفع أم كلثوم (ذات الخبرة المحدودة في الغناء حتى ذلك الوقت) إلى أن تمارس بلا حدود وبلا ضوابط افتتانها بالطبقات العليا لصوتها، مما كان يغلف كل ذلك بطابع من الحدة المعدنية، يلاحظها المستمع بكل وضوح (على سبيل المثال لا الحصر) في لحني النجريدي “يا كراوان والنبي سلم” و”مالي فتنت”، وفي لحن القصبجي المبكر “ان حالي في هواها عجب”. أما قصائد أبو العلا محمد وعبده الحامولي، فمع أنها تنتمي إلى بواكير أم كلثوم، ولكن تسجيلها على اسطوانات تم على سنوات متباعدة، في أثناء حياة أبو العلا محمد (مات في العام 1927)، وحتى بعد رحيله بسنوات. لذلك لا يمكن استخدامها في تحليل هذه الظاهرة.
غير أن بداية ألحان زكريا أحمد لأم كلثوم، في العام 1931 وما بعده، شهدت بداية تراجع طابع الحدة في صوت أم كلثوم وفي أدائها، وإن كان بشكل متدرج، بدليل أن تلك الحدة ظلت تعاود ظهورها في المقاطع اللحنية التي ترتفع إلى مساحات صوتية عالية، مثل لحني القصبجي الرائعين “انت فاكراني” و”ليه تلاوعيني”. ولعل منتصف الثلاثينيات كانت المحطة الأبرز في التراجع الجدي لمعالم الحدة، الذي اكتمل مع الأربعينيات، حيث اكتملت كما يبدو عملية التهذيب والتشذيب الذي تعرضت له حنجرة أم كلثوم وأسلوبها في الأداء، وهي عملية من المؤكد أنها نمت بفعل عوامل عديدة، منها نضج تجارب أم كلثوم الصوتية، وانتهاء فترة افتتانها (في مطلع شبابها) بطبقاتها العليا، ومنها نضج الملحنين الذين يبدعون لها ما تغني، الذين لا بد أن يكون طول التعامل قد دفعهم إلى إعمال خيالهم الفني في كل طبقات صوت أم كلثوم (لا الطبقات العليا وحدها) وهي طبقات كان السن والتجربة يزيدانها نضجا. ولعل من تلك العوامل، التأثر غير المباشر (وربما المباشر) بأسلوب محمد عبد الوهاب الذي كان خياله كملحن، وذوقه المرهف ورغبته التجديدية الجامحة في أسلوب الغناء (وليس في التلحين فقط) قد هذب نواتىء الحدة في صوته وأدائه ودور زواياها الحادة منذ فترة مبكرة نسبيا، فابتدع ذلك الأسلوب الغنائي الفذ، الذي يطغى فيه الإحساس والحساسية على استعراض العضلات الصوتية، مما دفع مطربا في وزن وديع الصافي إلى التصريح مرارا، في أحاديث إذاعية وتلفزيونية مكررة: “لقد تعلمنا الذوق الغنائي من عبد الوهاب”.
فإذا عدنا إلى أم كلثوم فأن ما يدفعنا إلى القول أن عقدي الأربعينيات والخمسينيات (مع الجزء الأخير من الثلاثينيات) شكلا المرحلة الذهبية لحنجرتها ولأسلوبها في الأداء، فلأن المعادلة الذهبية كانت على أتم اكتمالها في هذين العقدين:
اكتمال المساحات الصوتية الاستثنائية بكامل طبقاتها العليا والدنيا.
اكتمال التجربة والنضج والتوازن بين قوة الصوت وحلاوته من جهة، والتحكم بأساليب التعبير المتنوعة والملونة بشتى الأحاسيس، وانصرام عهد الشباب الأول المفتون بقوة الصوت ومساحاته العليا فقط.
ومن المؤكد أن رياض السنباطي كان المستفيد الأول بين ملحني أم كلثوم الثلاثة الرئيسيين في تلك المرحلة الذهبية، لأنه كان خلالها قد أنضج صيغة اللون الكلثومي الذي تميز به، سواء في قصائده العاطفية والدينية الشامخة، أو في مونولوجاته المسرحية المطولة، ولأنه أنجز معظم إنتاجه الكلثومي في إطار هذه المرحلة الذهبية.
إن من يستمع إلى رباعيات الخيام وغلبت أصالح في روحي وجددت حبك ليه ودليلي احتار (على سبيل المثال لا الحصر) بوسعه أن يضع يده بدقة على ما نحاول لفت النظر إليه من تراث أم كلثوم. أما المستفيد الثاني فكان زكريا أحمد، لأنه أنجز كل مونولوجاته المسرحية المطولة في إطار هذه المرحلة (مثل الأمل والآهات وأهل الهوى وأنا في انتظارك) ولأنه أطلق صيحته الأخيرة الرائعة “الهوى غلاب” قبل أن تبدأ أم كلثوم رحلة الخروج المتدرج من المرحلة الذهبية. ولعل من حظنا كمستمعين، وحظ تاريخ الموسيقى العربية المعاصرة، أن يكون القصبجي قد أتيح له (قبل القطيعة المأساوية) أن يلحن لأم كلثوم في إطار المرحلة الذهبية رائعته التاريخية (بكل معنى الكلمة) “رق الحب