إسلام حمزة بن عبد المطلب
وفي السنة السادسة أسلم حمزة بن عبد المطلب وعمر .
قال ابن إسحاق : مر أبو جهل برسول الله صلى الله عليه وسلم عند الصفا : فآذاه ونال منه ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساكت . فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل المسجد . وكانت مولاة لعبد الله بن جعدان في مسكن لها على الصفا ، تسمع ما يقول أبو جهل . وأقبل حمزة من القنص متوشحا قوسه . وكان يسمى : أعز قريش . فأخبرته مولاة ابن جدعان بما سمعت من أبي جهل . فغضب . ودخل المسجد - وأبو جهل جالس في نادي قومه - فقال له حمزة يا مصفر استه . تشتم ابن أخي وأنا على دينه ؟ ثم ضربه بالقوس فشجه موضحة . فثار رجال من بني مخزوم . وثار بنو هاشم . فقال أبو جهل دعوا أبا عمارة . فإني سببت ابن أخيه سبا قبيحا . فعلمت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عز . فكفوا عنه بعض ما كانوا ينالون منه .
إسلام عمر رضي الله عنه
وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال اللهم أعز الإسلام بأحب الرجلين إليك : إما عمر بن الخطاب . أو أبي جهل بن هشام فكان أحبهما إلى الله عمر رضي الله عنه .
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما : أنه قال لعمر رضي الله عنه لم سميت الفاروق ؟ فقال أسلم حمزة قبلي بثلاثة أيام . ثم شرح الله صدري للإسلام . وأول شيء سمعته من القرآن ووقر في صدري ( 20 : 8 ) الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى فما في الأرض نسمة أحب إلي من نسمة رسول الله صلى الله عليه وسلم . فسألت عنه ؟ فقيل لي : هو في دار الأرقم . فأتيت الدار - وحمزة في أصحابه جلوسا في الدار . ورسول الله صلى الله عليه وسلم في البيت - فضربت الباب فاستجمع القوم . فقال لهم حمزة ما لكم ؟ فقالوا : عمر فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأخذ بمجامع ثيابي . ثم نترني نترة لم أتمالك أن وقعت على ركبتي . فقال ما أنت بمنته يا عمر ؟ فقلت : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأنك رسول الله فكبر أهل الدار تكبيرة سمعها أهل المسجد . فقلت : يا رسول الله ألسنا على الحق إن متنا أو حيينا ؟ قال بلى . فقلت : ففيم الاختفاء ؟ والذي بعثك بالحق لتخرجن ، فخرجنا في صفين . حمزة في صف . وأنا في صف - له كديد ككديد الطحن - حتى دخلنا المسجد . فلما نظرت إلينا قريش أصابتهم كآبة لم يصبهم مثلها قط . فسماني رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاروق .
وقال صهيب لما أسلم عمر رضي الله عنه جلسنا حول البيت حلقا ، فطفنا واستنصفنا مما غلظ علينا .
حماية أبي طالب لرسول الله
ولما رأت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتزايد أمره ويقوى ، ورأوا ما صنع أبو طالب به . مشوا إليه بعمارة بن الوليد . فقالوا : يا أبا طالب ، هذا أنهد فتى في قريش وأجمله . فخذه وادفع إلينا هذا الذي خالف دينك ودين آبائك فنقتله فإنما هو رجل برجل . فقال بئسما تسومونني ، تعطوني ابنكم أربيه لكم وأعطيكم ابني تقتلونه ؟ فقال المطعم بن عدي بن نوفل : يا أبا طالب قد أنصفك قومك ، وجهدوا على التخلص منك بكل طريق . قال والله ما أنصفتموني ، ولكنك أجمعت على خذلاني . فاصنع ما بدا لك .
وقال أشراف
مكة لأبي طالب إما أن تخلي بيننا وبينه فنكفيكه . فإنك على مثل ما نحن عليه أو أجمع لحربنا . فإنا لسنا بتاركي ابن أخيك على هذا ، حتى نهلكه أو يكف عنا ، فقد طلبنا التخلص من حربك بكل ما نظن أنه يخلص . فبعث أبو طالب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له يا ابن أخي ، إن قومك جاءوني ، وقالوا كذا وكذا ، فأبق علي وعلى نفسك ، ولا تحملني ما لا أطيق أنا ولا أنت . فاكفف عن قومك ما يكرهون من قولك . فقال صلى الله عليه وسلم
والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري ، ما تركت هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك في طلبه فقال امض على أمرك ، فوالله لا أسلمك أبدا
ودعا أبو طالب أقاربه إلى نصرته فأجابه بنو هاشم وبنو المطلب ، غير أبي لهب ، وقال أبو طالب
والله لن يصلوا إليك بجمعهم
حتى أوسد في التراب دفينا
فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة
وأبشر وقر بذاك منك عيونا
ودعوتني ، وعرفت أنك ناصحي
ولقد صدقت ، وكنت ثم أمينا
وعرضت دينا قد عرفت بأنه
من خير أديان البرية دينا
لولا الملامة أو حذار مسبة
لوجدتني سمحا بذاك مبينا |
الشعب
62
ولما اجتمعوا - مؤمنهم وكافرهم - على منع رسول الله صلى الله عليه وسلم اجتمعت
مكة ، ولا بيعا إلا بادروا فاشتروه .
ومنعوه أن يصل شيء منه إلى بني هاشم . حتى كان يسمع أصوات نسائهم يتضاغون من وراء
الشعب ، فأوثقهم . وعظمت الفتنة وزلزلوا زلزالا شديدا ، وكان أبو طالب إذا أخذ الناس مضاجعهم . أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضطجع على فراشه حتى يرى ذلك من أراد اغتياله .
فإذا نام الناس أمر أحد بنيه أو إخوته أو بني عمه فاضطجع على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم . وأمره أن يأتي أحد فرشهم . وفي ذلك عمل أبو طالب قصيدته اللامية المشهورة التي قال فيها
ولما رأيت القوم لا ود فيهمو
وقد قطعوا كل العرى والوسائل
وقد صارحونا بالعداوة والأذى
وقد طاوعوا أمر العدو المزايل
صرت لهم نفسي بسمراء سمحة
وأبيض عضب من تراث المقاول
وأحضرت عند البيت رهطي وأسرتي
وأمسكت من أثوابه بالوصائل
أعوذ برب الناس من كل طاعن
علينا بسوء أو ملح بباطل
ومن كاشح يسعى لنا بمغيظة
ومن ملحق في الدين ما لم يحاول
وثور ومن أرسى ثبيرا مكانه
وراق ليرقى في حراء ونازل
وبالبيت - حق البيت - من بطن مكة
وبالله إن الله ليس بغافل
وبالحجر المسود إذ يمسحونه
إذا اكتنفوه بالضحى والأصائل
وموطئ إبراهيم في الصخر رطبة
على قدميه حافيا غير ناعل
وأشواط بين المروتين إلى الصفا
وما فيهما من صورة وتماثل
وبالمشعر الأقصى ، إذا عمدوا له
الإل إلى مفضى الشراج القوابل
ومن حج بيت الله من كل راكب
ومن كل ذي نذر ومن كل راجل
وليلة جمع والمنازل من منى
وهل فوقها من حرمة ومنازل ؟
فهل بعد هذا من معاذ لعائذ ؟
وهل من معيذ يتقي الله عادل ؟
كذبتم وبيت الله نترك مكة
ونظعن إلا أمركم في بلابل
كذبتم وبيت الله نبزى محمدا
ولما نطاعن دونه ونناضل
ونسلمه حتى نصرع حوله
ونذهل عن آبائنا والحلائل
وينهض قوم في الحديد إليكمو
نهوض الروايا تحت ذات الصلاصل
وإنا لعمر الله إن جد ما أرى
لتلتبسن أسيافنا بالأماثل
بكفي فتى مثل الشهاب سميدع
أخي ثقو حامي الحقيقة باسل
وما ترك قوم - لا أبا لك - سيدا
يحوط الذمار غير ذرب مواكل
وأبيض يستسقي الغمام بوجهه
ربيع اليتامى عصمة للأرامل
يلوذ به الهلاك من آل هاشم
فهم عنده في حرمة وفواضل
فعتبة لا تسمع بنا قول كاشح
حسود كذوب مبغض ذي دغائل
ومر أبو سفيان عني معرضا
كما مر قيل من عظام المقاول
تفر إلى نجد وبرد مياهه
وتزعم أني لست عنك بغافل
أمطعم لم أخذلك في يوم نجدة
ولا معظم عند الأمور الجلائل
أمطعم إن القوم ساموك خطة
وإني متى أوكل فلست بآكلي
جزى الله عنا عبد شمس ونوفلا
عقوبة شر عاجلا غير آجل
فعبد مناف أنتمو خير قومكم
فلا تشركوا في أمركم كل واغل
وكنتم حديثا حطب قدر فأنتمو
الآن حطاب أقدر ومراجل
فكل صديق وابن أخت نعده
لعمري وجدنا غبه غير طائل
سوى أن رهطا من كلاب بن مرة
براء إلينا من معقة خاذل
ونعم ابن أخت القوم غير مكذب
زهيرا حساما مفردا من حمائل
لعمري لقد كلفت وجدا بأحمد
وإخوته دأب المحب المواصل
فمن مثله في الناس أي مؤمل
إذا قاسه الحكام عند التفاضل ؟
حليم رشيد عادل غير طائش
يوالي إلها ليس عنه بغافل
فوالله لولا أن أجيء بسبة
تجر على أشياخنا في المحافل
لكنا اتبعناه على كل حالة
من الدهر جدا ، غير قول التهازل
لقد علموا أن ابننا لا مكذب
لدينا ، ولا يعنى بقول الأباطل
حدبت بنفسي دونه وحميته
ودافعت عنه بالذرى والكلاكل
الشعب خفية بالليل بالطعام - مشى إلى الحجون ، وتعاقدوا على القيام بنقض الصحيفة . فقال زهير أنا أبدأ بها .
فجاءوا إلى الكعبة - وقريش محدقة بها - فنادى زهير يا أهل مكة ، إنا نأكل الطعام . ونشرب الشراب ونلبس الثياب وبنو هاشم هلكى . والله لا أقعد حتى تشق الصحيفة القاطعة الظالمة . فقال أبو جهل : كذبت . والله لا تشق . فقال زمعة أنت والله أكذب . ما رضينا كتابتها حين كتبت . وقال أبو البختري صدق زمعة لا نرضى ما كتب فيها ولا نقار عليه . فقال المطعم بن عدي . وكذب من قال غير ذلك . نبرأ إلى الله منها ومما كتب فيها . وقال هشام بن عمر في ذلك . فقال أبو جهل هذا أمر قد قضي بليل تشوور فيه بغير هذا المكان .
وبعث الله على صحيفتهم الأرضة فلم تترك اسما لله إلا لحسته و بقي ما فيها 65
من شرك وظلم وقطيعة وأطلع الله رسوله على الذي صنع بصحيفتهم . فذكر ذلك لعمه . فقال لا ، والثواقب ما كذبتني . فانطلق يمشي بعصابة من بني عبد المطلب ، حتى أتى المسجد وهو حافل في قريش . فلما رأوهم ظنوا أنهم خرجوا من شدة الحصار وأتوا ليعطوهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتكلم أبو طالب . فقال قد حدث أمر . لعله أن يكون بيننا وبينكم صلحا . فأتوا بصحيفتكم - وإنما قال ذلك خشية أن ينظروا فيها قبل أن يأتوا بها ، فلا يأتون بها - فأتوا بها معجبين . لا يشكون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مدفوع إليهم قالوا : قد آن لكم أن تفيئوا وترجعوا خطرا لهلكة قومكم .
فقال أبو طالب : لأعطينكم أمرا فيه نصف . إن ابني أخبرني - ولم يكذبني - أن الله عز وجل بريء من هذه الصحيفة التي في أيديكم وأنه محا كل اسم له فيها ، وترك فيها غدركم وقطيعتكم . فإن كان ما قال حقا ، فوالله لا نسلمه إليكم حتى نموت عن آخرنا . وإن كان الذي يقول باطلا ، دفعناه إليكم فقتلتموه . أو استحييتموه . قالوا : قد رضينا . ففتحوا الصحيفة فوجدوها كما أخبر . فقالوا : هذا سحر من صاحبكم فارتكسوا وعادوا إلى شر ما هم عليه . فتكلم عند ذلك النفر الذين تعاقدوا - كما تقدم - وقال أبو طالب شعرا يمدح النفر الذين تعاقدوا على نقض الصحيفة . ويمدح النجاشي ، منه
جزى الله رهطا بالحجون تتابعوا
على ملأ يهدى بحزم ويرشد
أعان عليها كل صقر كأنه
إذا ما مشى في رفرف الدرع أجرد
قعودا لدى جنب الحجون كأنهم
مقاولة بل هم أعز وأمجد
وأسلم هشام بن عمرو يوم الفتح . وخرج بنو هاشم من شعبهم وخالطوا الناس . وكان خروجهم في سنة عشر من النبوة . مات أبو طالب بعد ذلك بستة أشهر .