مر أكثر من عام قبل أن يلتقيا ثانية في حفل مدرسي.. تصافحا للمرة الأولى، هي في ربيع عمرها وهو في خريفه.. متزوج وعنده ثلاث بنات وولد واحد.. جمعتهما منضدة وعلبتي عصير.. لاحقت نظراتها ضيوف الحفل، بينما راح يختلس بنظراته صفحة وجهها ويتأمل جمالها.. تذكّر كل ما حدثته زوجته عنها.. "ترمّلت ليلة زفافها، أصيب زوجها بعيار ناري طائش أثناء حفلة الزفاف وفارق الحياة على الفور، ومنذ عشرة أعوام لم يتقدم أحد لخطبتها.. تعمل معلّمة في نفس المدرسة التي تعمل فيها زوجته..".
قالت أيضاً أن لصديقتها حكايات بعضها مؤلم وبعضها أشد إيلاماً.. حتى غدا يعيش قصة حياتها ويتشوق لرؤيتها.
أيقظه تصفيق المدعوين من متاهته.. وقف مع من وقفوا استعداداً لمغادرة الحفل.. نظر في وجهها ثانية وعرض عليها أن يوصلها للبيت.. وافقت بعد تردد، وعندما دعاها لاحتساء فنجان قهوة.. قالت:
- ألم أقل لك سابقاً إني أعرف الرجال من نظراتهم وعيونهم.
قال: ولماذا تتجاهلين نظرات الاحترام والصداقة!.
- وهل تؤمن بالصداقة بين رجل شرقي وامرأة!.
سادت لحظة صمت بينهما.. وقبل أن تصل بيتها نظر إلى وجهها مباشرة وقال:
- أنا لم أتخلّ عن دعوتي بعد.
نظرت في وجهه وابتسمت، أعادت ابتسامتها الثقة والشباب إلى نفسه.. قال:
- متى نلتقي ثانية؟.
ابتسمت وقالت: غداً بعد الظهر عند استراحة الشلال.
تلك الليلة، ظل يتقلّب في فراشه.. سرحت أفكاره في عالم ضبابي.. طال الليل، وطالت همومه.. لم يغمض له جفن، وظل طوال الوقت يساءل نفسه "هل أخطأ حين دعاها، وهل أخطأتْ عندما وافقت.. أم أن أهذا ما يسمونه فترة المراهقة الثانية!.
قبل الموعد أسرع إلى استراحة الشلال، دخل صامتاً هادئاً، جال بنظره عبر الاستراحة.. تماوجت الأضواء الخافتة، وانسابت الموسيقى في أذنيه من السقف والجدران.. اتجه إلى ركن جانبي يحلو لعشاق الهدوء والصمت والتأمل، وجلس.. نظر في ساعته، لم يحن وقت مجيئها بعد.."حدث نفسه"، هو الذي استبق الموعد بأكثر من ساعة.. شعر بالفراغ، أجال نظره ثانية في المكان وراحت عيناه ترقب المارة وتلاحق السيارات في الشارع العريض.
حدّث نفسه ثانية "ما أصعب لحظات الانتظار".. وراح يتذكر لقاءه الأول معها عندما التقاها ذات مساء في بيته بضيافة زوجته.. بدا له إنه يعرفها منذ زمن طويل.. هادئة كانت وصامتة، بدت ابتسامتها حزينة، وفقد وجهها الأبيض الجميل نضارة الحياة.. حاول تبديد الصمت ليخرجها من متاهتها.. سأل زوجته هامساً:
- ما اسم صديقتك؟.
أجابت "اسألها، وستعرف الجواب".
صمت لحظة، نظر إليها، لاحظ مسحة حزن تفترش وجنتيها وتُخيّم على وجهها.. قال:
- العمر قصير، والحياة لا تستحق كل هذه المعاناة.
ردت بصوت متهدج يشبه الهمس:
- مأساة هي الحياة.
قال: أنتِ تتألمين فعلاً.
أجابت بصوت حزين: أتألم من معاملة الناس لي، ومن نظراتهم.. نظرات الناس للمرأة الأرملة تلسع مثل النار، وتقرص مثل العقرب.
قاطعها: أنت أديبة أيضاً، ومع ذلك لم تخبريني عن أسمك!.
قالت "اسمي في عيني"، ولزمت الصمت.
شعر أنها تدعوه للنظر إلى عينيها.. نظر إلى وجهها ثانية.. هاله أن يرى هذا الجمال، وهذه النظرة الذابلة.. ومع ذلك لم يجرؤ على النظر في عينيها.. ابتسمت زوجته وقالت:
- ألم تعرف بعد!.
قال "هي لغز إذن".
- لا، دمعة.
بُهت، صمت لحظة ولم يفهم شيئاً.. أضافت:
- دمعة، اسمها دمعة.
غابت دمعة بعد تلك الليلة لفترة طويلة، ومع ذلك ظلت دمعتها مرسومة في ذاكرته كوشم، ولم يغب وجهها عن مخيلته منذ لقاءهما الأول.
تراءت له من بعيد بنفس الثوب الأحمر الناري الذي شاهدها فيه أول مرة في بيته.. خُيّل له أنه يسمع أنفاسها قبل وصولها، أحس بقلبه يخفق مثل طائر مذبوح.. رمقها ورمقته من خلال نظارتها الشمسية السوداء.. ابتسم، بادلته الابتسامة وجلست على مقعد مواجهاً لناظريه.
الابتسامة مثل لغة الموسيقى، ليست بحاجة إلى ترجمة.. تفاهما بالابتسامة ولغة العيون دون أن ينطقا بكلمة واحدة.. ران الصمت على المكان.. وفي أعماق نفسه وحواره الداخلي أخذ يوازن بين متطلبات وتكلفة تلك الابتسامة الآسرة، وبين ما يملك من نقود ثمن الدواء الذي طلبته زوجته لابنته المريضة قبل خروجه من البيت.
تناسى ما فكّر به وغاص في الابتسامة متهرباً من شواطئ أسئلته.. شدته ابتسامتها كأنما شفتيها وردة حمراء تفتحتا عن رائحة زكية عبقت في أرجاء المكان، وغمرته، وهمس في قرارة نفسه "كل ابتسامة تحتها أسرار من معاني القلب المعقّدة".. أيقظته من كابوس شروده، وقالت "لا أريد قهوة، استبدلتُ القهوة بمشروب بارد".
طلب كأسين من عصير البرتقال، وبلا مقدمات نظر إلى وجهها وراحت يده تلاحق يدها.. لمس يدها الطرية الرطبة الناعمة.. بادلته نفس الشعور، وفسحت له المجال ليداعب أصابعها.. قال في أعماقه "خسارة أن تكون بلا زوج يغدق عليها الحب".
دق جرس هاتفها النقال.. امتدت يدها الرقيقة ورفعت الهاتف، امتقع لونها، تماوجت الألوان على صفحة وجنتها، رمشت بعينيها وأسبلت جفنيها وهي تربت على يده بحنان ودلال، ويدها الأخرى ممسكة بهاتفها النقال.. ابتسمت وقالت على الهاتف "طبعاً أنا لم أغيّر رأيي، إلى اللقاء"، وأغلقت الخط.
طافت طفلة تبيع الورد الملون، في عينيها جمال أخاذ وضوء مشع.. قدمت له وردة حمراء، أخذها ونقدها ثمنها، وقدمها مع ابتسامة خفيفة لصديقته.. تأملت الوردة وقالت:
- قدّمت لي وردة وقلت عربون المحبة، ولم تقل عربون الصداقة.. لماذا؟، وماذا بعد الحب!.
شعر أنها ألجمته في جملتها.. لم يتوقّع صراحتها، تابعت:
- أنا صديقة زوجتك، وأحببت أن أجاريك.. أنا لست من ذلك النوع.. ألم أقل لك أن كل الرجال يفكّرون بعين واحدة.. ونقرت بإصبعها على يده.
قشعريرة فجائية سرت في جسده مثل تماس كهربائي، سحب يده وأسند ظهره إلى الخلف، فجأة تصبّب جبينه عرقاً، وقال بارتباك:
- وهل بدر مني ما يستحق هذه التساؤلات؟.
- لا، ولكن أحببتُ أن أذكّرك فقط.
لم يجب.. راح يغالب أحاسيسه، حاول أن يرفع رأسه فلم يستطع النظر في عينيها، كأنما أثقلته هموم الزمن.. حاول أن يتكلم، شعر بنفسه كمن يستل كلماته من بئر عميق.. قالت:
- أنظر في عينيّ.. هل ترى شيئاً؟.
بثقل الأفكار التي كان يحملها تلك اللحظة رفع رأسه.. نظر، حدّق في حدقتي عينيها، لم يرهما.. شاهد خيال زوجته في نظارتها الشمسية السوداء يتقدم من خلفه، يكبر.. لم يصدّق.. نظر إلى الوراء، هاله منظر زوجته تقف أمامه مباشرة.. ذُهل، علامات الدهشة بدت واضحة في عينيه.. وقف.. قالت دمعة:
- أنا دعوت زوجتك لهذه الجلسة، أحببت أن أفاجئك.
تصبب العرق من جبينه وهمس: أية مفاجأة هذه..!؟.
قالت: لم أشأ أن أكون دمعة في حياتك.. يكفيك ابتسامة زوجتك.
تلعثم.. غارت الكلمات وتوقفت في حنجرته.. هاجمته نظرات العيون التي تلسع وتقرص، طوّح بثقله على المقعد وراح يرقب المشاة في الشارع العريض.