أ) القـــــول الأول : المنع مطلقا . وهو قول الجمهور ( الحنابلة والشافعية والمالكية وزفر من الحنفية )(1)
قال ابن قدامه أحدها: الكمال وهو نوعان كمال الأحكام, وكمال الخلقة أما كمال الأحكام فيعتبر في أربعة أشياء أن يكون بالغا عاقلا حرا ذكرا)(2) قال الإمام القرافي وهو أن يكون ذكرا لان يقضي الأنوثة يمنع من زجر الظالمين وتنفيذ الحق)(3) قال الفيروز آبادي وينبغي أن يكون القاضي ذكراً...)(4)
أدلة القول الأول :
1- قوله تعالى : {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ)النساء (34)
وجه الاستدلال: أن (أل) هنا للاستغراق فتشمل جميع النساء والرجال في جميع الأحوال والأصل وجوب العمل بالعام حتى يأتي مايخصصه ولا مخصص هنا .
قال الإمام ابن كثير عليه رحمة الله : ( أي هو رئيسها ، وكبيرها و الحاكم عليها و مؤدبها إذ اعوجت , بما فضل الله بعضهم على بعض أي لأن الرجال أفضل من النساء و الرجل خير من المرأة ، و لهذا كانت النبوة مختصة بالرجال ، و كذلك الملك الأعظم لقوله صلى الله عليه وسلم : (لم يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة ...) و كذا منصب القضاء ، وغير ذلك ، ( و بما أنفقوا من أموالهم ) أي من المهور ، و النفقات
و الكلف التي أوجبها الله عليهن في كتابه ، وسنة نبيه صلى الله عليه و سلم ، فالرجل أفضل من المرأة في نفسه ، و له الفضل عليها ، والإفضال , فناسب أن يكون قيما عليها كما قال الله تعالى : ( و للرجال عليهن درجة ).
و قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهم : ( الرجال قوامون على النساء ) (( يعني أمراء عليها أن تطيعه فيما أمرها به من طاعته ، و طاعته أن تكون محسنة لأهلها حافظة لماله)(1)
2- قوله تعالى وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى .... الآية )البقرة 282
وجه الاستشهاد : أن الله جعل شهادة المرأة نصف شهادة الرجل وعلل ذلك بقوله أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى .) فالمرأة الواحدة عرضة للنسيان والضلال فجعل معها أخرى تذكيرا لها وهذا في الشهادات فكيف بالقضاء الذي فيه حقوق الناس وليس من حفظ الحقوق تعريضها للنسيان والنقص.
وقد بين النبي صلى الله عليه سبب ذلك كما في الحديث التالي :
. فقد روى البخاري في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أضحى، أو في فطر إلى المصلى فمر على النساء، فقال صلى الله عليه وسلم: "يا معشر النساء: تصدقن؛ فإني أُرِيتكن أكثر أهل النار، فقلن وبم يا رسول الله؟ قال: تكثرن اللعن، وتكفرن العشير، ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب لِلُبِّ الرجل الحازم من إحداكن، قلن وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله؟ قال: أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل؟ قلن: بلى، قال: فذلك من نقصان عقلها، أليس إذا حاضت لم تصل، ولم تصم؟ قلن: بلى، قال: فذلك من نقصان دينها" (2)
وجه الاستدلال : أ- استنكار الهدهد لوجود امرأة تحكم هؤلاء القوم .
ب- إزالة سليمان عليه السلام لملكها ولو كان ذلك سائغاً لأقرها عليه ودعاها للإسلام فقط ولكنه قال ألا تعلوا علي ).
ج- أنه أخذ ملكها خلسة بإرسال الجن له ولو كان حكمها جائز لما أزاله بالخلسة.
4-قوله تعالى {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى..... } الأحزاب33
وجه الاستدلال :
أن الله أمر المرأة بالقرار في البيت والقضاء يوجب خروجها واختلاطها بالرجال بالبروز لهم مما ينافي الآية
وقال ابن كثير رحمه الله في تفسير قوله تعالى : ((وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ )) أي الزمن بيوتكن فلا تخرجن لغير حاجة)(1)
روى البخاري في صحيحه عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( قد أذن الله لكن أن تخرجن لحوائجكن)(
يقول العيني في شرح هذا الحديث : (قال ابن بطال : في هذا الحديث دليل على أن النساء يخرجن لكل ما أبيح لهن الخروج ، من زيارة الآباء والأمهات وذوي المحارم ، وغير ذلك مما تمس به الحاجة)(3
5-من السنة : فلم يرد عن النبي صلى اله عليه وسلم أنه ولى امرأة على القضاء أو إحدى الولايات العامة ولو كان ذلك حقاً لها لما حرمها منه النبي صلى الله عليه وسلم .
6- قوله صلى الله عليه وسلم ( لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة )(4).
وذلك عندما أخبر أن بنت كسرى تولت الحكم بعد أبيها .
وجه الاستلال : أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل من أسباب عدم الفلاح تولي المرأة للولايات العامة والقضاء نوع من أنواع الولاية وان كان الحديث جاء في موقف خاص فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .
قال الصنعاني ـ رحمه الله تعالى ـ : "فيه دليل على أن المرأة ليست من أهل الولايات ، ولا يحل لقومها توليتها لأن تجنب الأمر الموجب لعدم الفلاح واجب)(1)
قالت لجنة كبار علماء الأزهر في شرحها للحكم المستنبط من هذا الحديث: "وظاهر أن الرسول ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ لا يقصد مجرد الإخبار عن عدم فلاح هؤلاء القوم الذين يولون المرأة أمرهم لأن وظيفته ـ عليه الصلاة والسلام ـ بيان ما يجو لأمته أن تفعله حتى تصل إلى الخير والفلاح ، وما لا يجوز لها أن تفعله حتى تسلم من الشر والخسارة، وإنما يقصد نهي أمته عن مجاراة الفرس في إسناد شيء من الأمور العامة إلى المرأة ، وقد ساق ذلك بأسلوب من شأنه أن يبعث القوم الحريصين على خلاصهم وانتظام شملهم على الامتثال، وهو أسلوب القطع بأن عدم الفلاح ملازم لتولية المرأة أمراً من أمورهم، ولا شك أن النهي المستفاد من الحديث يمنع كل امرأة في كل عصر من العصور أن تتولى أي شيء من الولايات العامة ، وهذا العموم تفيده صيغة الحديث وأسلوبه كما يفيده المعنى الذي كان من أجله المنع. وهذا ما فهمه أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وجميع أئمة السلف ، لم يستثنوا من ذلك امرأة ولا قوماً ولا شأناً من الشؤون فهم جميعاً يستدلون بهذا الحديث على حرمة تولي المرأة الإمامة الكبرى والقضاء وقيادة الجيوش وما إليها من الولايات العامة)(2)
7-قول النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ : (والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها)(3)
وجه الدلالة : بيان أن أهم واجبات المرأة العامة التي تسأل عنها بين يدي الله تعالى (ديانة) هي على مسئوليتها عن بيتها، وهو صريح في أن هذا هو الواجب المقدم على غيره، ثم قام بالمنع من غيره في الولاية العامة ما تقدم من الأدلة، ويعضد هذا: صيغة الحديث من مبدئها حيث بينت مسئولية الواجبات على أفراد المؤمنين رجالاً ونساءً في الجملة ـ أعني الواجبات الاجتماعية بين الناس مع بعضهم ـ إذ قال ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ (ألا كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته ، والخادم راع في مال سيده ومسئول عن رعيته ، والرجل راع في أهل بيته ومسئول عن رعيته ، والخادم راع في مال سيده ومسئول عن رعيته، والمرأة..) .
قال البغوي في شرح السنة معنى الراعي هنا الحافظ المؤتمن على من يليه؛ أمرهم النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ بالنصيحة فيما يلونه وحذرهم الخيانة فيه بإخباره أنهم مسئولون عنه ، فالرعاية : حفظ الشيء وحسن التعهد
هؤلاء في الاسم (الراعي) وإن كانت معانيهم فيه مختلفة فرعاية الإمام: ولاية أمور الرعية، والحياطة من ورائهم وإقامة الحدود والأحكام فيهم، ورعاية الرجل أهله : بالقيام عليهم في النفقة وحسن العشرة، ورعاية المرأة في بيت زوجها بحسن التدبير في أمر بيته والتعهد لخدمته وأضيافه"(1)
والحديث ظاهر في أن الأصل في المرأة العمل داخل البيت لا خارجه، وما عداه فيحتاج فيه إلى المبرر على الخروج، والولاية العامة قد علم الناس جميعاً أن الأصل فيها الخروج والبروز لا البقاء في البيت، ولأحمد من حديث أبي هريرة أن النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ قال : (ما من راع يسأل يوم القيامة أقام أمر الله أم أضاعه)(2 ولابن حبان بسند صحيح عن أنس : (إن الله سائل كل راع استرعاه حفظ ذلك أو ضيعه). (3)
ويؤيد هذا الأصل المفهوم من الحديث ما قرره ابن حجر ـ رحمه الله ـ في شرح هذا الحديث : "قوله (المرأة راعية في بيت زوجها) إنما قيد بالبيت لأنها لا تصل إلى ما سواه غالباً إلا بإذن خاص". فإن تولته تكون مضيعة ـ في الغالب ـ لواجبها الأهم.)(4)
ولقد جعل الإمام السيوطي هذا الحديث بمثابة تحديد الوالي والمولى عليه آخذاً ذلك من لفظ (راع) المستدعي رعيته ، فقال : "كلكم راع أي حافظ مؤتمن صلاح ما قام عليه وما هو تحت نظره"(1)
يتبع
8-قوله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ : (القضاة ثلاثة : اثنان في النار وواحد في الجنة : رجل عمل الحق فقضى به فهو في الجنة ، ورجل قضى في الناس على جهل، فهو في النار، ورجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار)(2)
إذ قال مجد الدين بن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ : "وهو دليل على اشتراط كون القاضي رجلاً" ، وأقر الشوكاني ، إذ قال في النيل : " دل بمفهومه على خروج المرأة اهـ (3)
أي من جواز أن تكون قاضية لقول الرسول ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ : (رجل علم الحق، ورجل قضى في الناس على جهل ، ورجل عرف الحق..)"
9- إجماع الصحابة رضي الله عنهم فلم يرد مخالفة لهم في المسألة والنبي صلى الله عليه وسلم يقول ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ) .(3)
وماهذا الإجماع إلا تطبيقا لما فهمه الصحابة رضي الله عنهم من النبي صلى الله عليه وسلم.
10- أن المرأة تعرض لها عوارض مستمرة كالحيض والحمل والرضاع ونحوها مما قد يؤثر في الحكم بين الناس .
11- أنه ثبت واقعياً عدم تحمل المرأة النظر في بعض القضايا التي فيها قتل ودماء ونحوها وذكر المستشار المصري محمد رأفت عثمان: أن إحدى القاضيات أغمي عليها في مجلس القضاء عندما كانت تحكم في قضية قتل .
ب) القول الثـــــــاني :
جواز توليها القضاء فيما تصح شهادتها فيه ( سوى الحدود والقصاص) وهو قول الأحناف وابن قاسم من المالكية .(1)
قال الامام الكاشاني وأما الذكورة فليست من شرط جواز التقليد في الجملة لان المرأة من أهل الشهادات في الجملة الا أنها لا تقضى بالحدود والقصاص لانه لا شهادة لها في ذلك وأهلية القضاء تدور مع أهلية الشهادة )(2)
أدلتــهــم:
1)قياس القضاء على الشهادة فأهلية القضاء تدور مع أهلية الشهادة ... وهذا أقوى دليل لديهم..
2) قوله تعالى إن الله يأمركم أن تأدوا الأمانات إلى أهلها ..) النساء58
وجه الاستدلال : ان الآية عامة فتشمل الرجال والنساء ومن أعظم الأمانات أمانة القضاء.
3)وقوله صلى الله عليه وسلم النساء شقائق الرجال ).(3)
وجه الاستلال : ان الآية عامة فلم تفرق بين القضاء وغيره
4)وقوله والمرأة راعية في بيت زوجها ...).
وجه الاستدلال: فقالوا بما أن النبي صلى الله عليه وسلم قد جعل لها الولاية في بيت زوجها فهذا دليل على أنها أهل للولاية .
ج) القول الثـالـــث:
الجواز المطلق وهو قول ابن حزم الظاهري وابن جرير الطبري وهو قول عند الأحناف .(1)
قال ابن حزم لرحمه الله - مَسْأَلَةٌ : وَجَائِزٌ أَنْ تَلِيَ الْمَرْأَةُ الْحُكْمَ
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَدْ رُوِيَ ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ وَلَّى الشِّفَاءَ امْرَأَةً مِنْ قَوْمِهِ السُّوقَ.
فإن قيل : قَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r : لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ أَسْنَدُوا أَمْرَهُمْ إلَى امْرَأَةٍ.
قلنا : إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ r فِي الأَمْرِ الْعَامِّ الَّذِي هُوَ الْخِلاَفَةُ. برهان ذَلِكَ : قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام : الْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى مَالِ زَوْجِهَا وَهِيَ مَسْئُولَةٌ ، عَنْ رَعِيَّتِهَا. وَقَدْ أَجَازَ الْمَالِكِيُّونَ أَنْ تَكُونَ وَصِيَّةً وَوَكِيلَةً وَلَمْ يَأْتِ نَصٌّ مِنْ مَنْعِهَا أَنْ تَلِيَ بَعْضَ الأُُمُورِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.) .(2)
أدلتــهــم:
ومن خلال التأمل في أدلة القائلين بهذا القول قديما وحديثا فإنها ترجع بالجملة إلى ما يلي::
1- أن الأصل الإباحة ولم يرد دليل صريح بالمنع .
2- قصة ملكة سبأ وأنها أثبتت حكمتها في الولاية وذلك بقولها (ماكنت قاطعة أمرا حتى تشهدون) .
وقولها ( إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون)النمل28
3-قولة تعالى {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً }النساء58.
وجه الاستدلال : أن الله أمر بأداء الأمانات ومن أعظم الأمانات أمانة القضاء ثم إن اللفظ عام فيشمل المرأة والرجل على حد سواء.
4- استشارة النبي صلى الله عليه وسلم لأم سلمه في عمرة الحديبية عندما رفض أصحابة التحلل فأشارت عليه أن يفعل التحلل أمامهم ويذبح الهدي ففعل عليه الصلاة والسلام واستجاب الصحابة له .(3)
ووجه الاستلال : أن أم سلمه أظهرت حكمتها واستجاب لها النبي صلى الله عليه وسلم فدل على وجود الحكمة عند النساء فلا يمنع من توليها للقضاء .
5- خروج عائشة رضي الله عنها قائدة للجيش في معركة الجمل .
وجه الاستشهاد: أن عائشة رضي الله عنها تولت قيادة الجيش ولو كان تولي المرأة للمناصب القيادية غير جائز لما تولت عائشة رضي الله عنها قيادة الجيش ومن تلك المناصب منصب القضاء.(1)
6- أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولى امرأة اسمها الشفاء محتسبة في السوق فلو كان تولي المرأة للمناصب الكبرى محرماً لما فعل عمر ذلك .(2)
7- مشاركة الصحابيات في الجهاد أيام النبي صلى الله عليه وسلم فدل ذلك على تحمل المرأة للمشاق وقدرتها على ذلك .
8- قياس القضاء على الإفتاء: فبما أن المرأة يجوز لها الإفتاءكذلك يجوز لها القضاء إذ أنه لافرق بينها فكل من الأمرين فيه بيان لحكم الله.
8- الاستدلال بما حصل لشجرة الدر التركية وأنها تولت الولاية العامة ثلاثة أشهر ولم يرد استنكار العلماء لها في ذلك الزمان .
ج ) المناقشة والترجيح :
بعد النظر والتأمل في الأقوال وأدلة كل قول يظهر والله أعلم ترجيح القول الأول لموافقته الأدلة الشرعية ولما ورد على أدلة المخالفين من نقاش.
ونورد هنا ماورد من نقاش على القولين الثاني والثالث:
أما بالنسبة للقول الثاني فنرد عليه من وجهين :
1-أن قياس القضاء على الشهادة في هذه المسألة قياس فاسد الاعتبار وذلك لمصادمته النص.
2- ثم إنه بعد التأمل في مذهب الأحناف وتحقيق القول فيه نجد أن الأصل عندهم المنع ولكن إذا حكمت نفذ قضاؤها في غير الحدود والقصاص وهو ماتصح شهادتها فيه وعليه فنزاعهم مع الجمهور في غير مسألتنا .
وتوضيح ذلك :أن محل النزاع في مسألتنا هو هل يجوز تولي المرأة القضاء ابتداء ؟؟
فعند التأمل نجد أن كلا من الجمهور والأحناف متفقين في ذلك على عدم الجواز ولكن لو قضت فإن الجمهور على عدم نفوذ حكمها وأما الأحناف فقالو ينفذ حكمها في غير الحدود والقصاص... والله أعلم ..
وأما بالنسبة للقول الثالث فنرد على أدلتهم كما يلي :
الجواب على الدليل الأول : قولهم أنه لم يرد دليل في المسألة هذا غير صحيح لأننا أوردنا جملة من الأدلة كما في أدلة القول الأول .
ثم إنهم نفوا وجود الأدلة على المنع ونحن أثبتناها والقاعدة تقول : أن المثبت مقدم على النافي .
الجواب على الدليل الثاني :وهو استدلالهم بملكة سبأ وأن الله أشاد بها.
والرد هنا من وجوه أربعة :
الوجه الأول: أين هي الإشادة ؟
أفي نسبتها للضلال والكُـفر ؟
كما في قوله تعالى : (وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ)
أم في ذِكر بعثها للرشوة باسم الهدية ؟!
كما في قوله تعالى : (وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35) فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آَتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آَتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ)
وربما يُقصد بالإشادة ما ذُكِر عنها أنها كانت عاقلة حكيمة.
وهذا يُجاب عنه في :
الوجه الثاني : أن يُقال إنها كانت كافرة ، فهل إذا أُثني على كافر بِعَدْلٍ أو بِعَقْلٍ يكون في هذا إشادة بِكُفره ؟!
بل وفي نفس القصة : (قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ) فهل يُمكن أن يُقال : هذا فيه ثناء على العفاريت ! فَـتُولَّـى العفاريت المناصِب ! وتُحَـكّم في الناس ؟!!!
الوجه الثالث : أن هذا لو صحّ أن فيه إشادة – مع ما فيه من ذمّ – فليس فيه مستند ولا دليل
أما لماذا ؟
فلأن هذا من شرع من قبلنا ، وجاء شرعنا بخلافه .
الوجه الرابع :
أن هذا الْمُلك كان لِبلقيس قبل إسلامها ، فإنها لما أسلمت لله رب العالمين تَبِعَتْ سُليمان عليه الصلاة والسلام ، فقد حكى الله عنها أنها قالت : (قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)النمل 44
فلما أسلمت مع سليمان لم يعُد لها مُلك ، بل صارت تحت حُكم سليمان عليه الصلاة والسلام.
الجواب على الدليل الثالث:وهو قوله تعالى إن الله يأمركم أن تأدوا الأمانات إلى أهلها..)
نرد عليه من وجهين :
1- أن الآية عامة وقد ورد التخصيص بالأدلة الوارد في النهي عن تولي المرأة الولايات العامة كما سبق ذكرها في القول الأول.
2- ثم إنه لو صح الاستدلال بهذه الآية على جواز تولي المرأة للقضاء لصح الاستدلال بها على جواز تولي المرأة للولاية العامة وهذا باطل بإجماع العلماء .
ومن النكت المفيدة في هذه المسألة :
ماورد في تفسير قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ ﴾ [النساء:23]
وقال الجصاص ـ رحمه الله ـ : "من التمني المنهي عنه أن يتمنى ما يستحيل وقوعه ، مثل أن تتمنى المرأة أن تكون رجلاً أو تتمنى حال الخلافة والإمارة ونحوها من الأمور التي قد أعلم أنها لا تكون ولا تقع) اهـ(1)
قال الشوكاني ـ رحمه الله تعالى ـ : "فإن ذلك نوع من عدم الرضا بالقسمة التي قسمها الله بين عباده على مقتضى إرادته وحكمته البالغة"(2)
وعلى هذا فتصوير أمر الولاية في ميدان بحثنا على أنها أنانية من الرجل واستبداد منه، وعنفوان من قبله ـ ما هو إلا نوع مجازفة وانسياق غريب وخطير وراء الإرهاب الفكري والإعلامي الغربي العام ، وذوبان ثقافي في الشعارات الثقافية الوافدة .. وهل التكامل بين الرجل والمرأة بتسخير كل واحد منهما نفسه لما خلق لأجله أنانية من الرجل؟ أليس يؤلمك أن يصور مناط البحث على أنه صراع جنسي بين الزوجين (الجنسين) على نمط نظرية الصراع الطبقي الماركسي الهالكة؟ كيف
وربك يقول : ﴿ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ﴾[النساء:32] .
الجواب على الدليل الرابع :
أما استدلالهم باستشارة النبي صلى الله عليه وسلم لأم سلمه فليس فيه دليل على مسألتنا
فما وجه الدلالة أن يكون سماع الرسول لمشورة أم سلمة دليلا على جواز انتخابها وترشيحها..وهل جعل الرسول أم سلمة عضوا يستشار، وهل كان لها ولأمهات المؤمنين مشورة في سياسة الأمة وهل كان لهما مع الصديق والفاروق ونظرائهم من الرجال رأي في اختيار الأمراء والوزراء، وإعداد الجيوش ونظام بيت المال!! ولم يقل أحد: إنه يحرم لذي سلطان أن يستشير زوجته في شأن ما، أو يأخذ رأي النساء في قضية من القضايا كما للمرأة الحق في أن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتدل على الخير..
ولكن أن يكون لها الحق أو عليها الواجب أن تتولى ولاية عامة إمارة أو وزارة، أو قضاء، أو تكون عضوا في مجلس تشريعي..
فليس في هذه القصة دليل على هذا الأمر.
الجواب على الدليل الخامس:
وهو تولي عائشة رضي الله عنها لقيادة الجيش في معركة الجمل.
والجواب أنها لم تخرج أميرة ولا حاكمة ولا كان الجيش الذي هي فيه يرى إماما لهم غير علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقد كان بالجيش طلحة والزبير وهما اللذان كانا على رؤوس الناس، وإنما خرجوا للإصلاح وظنوا أن وجود أم المؤمنين معهم أنفع في جمع الكلمة، وتجنيب المسلمين الحرب ثم كان ما كان مما لم يقع في الحسبان.
هذا وقد ندمت أم المؤمنين رضي الله عنها على هذا الخروج، ولامها كبار الصحابة، وجاء الحديث النبوي بالتحذير من هذا الخروج، فكيف يكون هذا دليلاً على تولي المرأة الولايات العامة.
أخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن المنذر وابن أبي شيبة وابن سعد عن مسروق قال: كانت عائشة رضي الله عنها إذا قرأت: «وقرن في بيوتكن» بكت حتى تبل خمارها وما ذاك إلا لأن قراءتها تذكرها الواقعة التي قتل فيها كثير من المسلمين، وهذا كما أن الزبير رضي الله عنه أحزنه ذلك فقد صح أنه رضي الله عنه لما وقع الانهزام على من مع أم المؤمنين رضي الله عنها وقتل من قتل من الجمعين طاف في مقتل القتلى فكان يضرب على فخذيه ويقول: يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيًا منسيًا، وليس بكاؤها عند قراءة الآية لعلمها بأنها أخطأت في فهم معناها أو أنها نسيتها يوم خرجت كما توهم بعضهم، وقد ينضم لما ذكرناه في سبب البكاء( أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يومًا لأزواجه المطهرات وفيهن عائشة رضي الله عنها: كأني بإحداكن تنبحها كلاب الحوأب، ولم تكن سألت قبل المسير عن الحوأب هل هو واقع في طريقها أم لا حتى نبحتها في أثناء المسير كلاب الحوأب، عند ماء فقالت لمحمد بن طلحة: ما اسم هذا الماء، فقال: يقولون له حوأب، فقالت: أرجعوني، وذكرت الحديث وامتنعت عن المسير وقصدت الرجوع، فلم يوافقها أكثر من معها ووقع التشاجر.)(1)
الجواب على الدليل السادس :
استدلالهم بقصة تعيين عمر للشفاء محتسبة في السوق فالرد عليها من وجهين :
- القصة ضعيفة السند وقد أوردها ابن حزم بصيغة التمريض (روي ) بخلاف صنيعه مع الأدلة الصحيحة وقال الإمام ابن العربي في التعليق على هذه القصة ( وهي من دسائس المبتدعة).(2)
والأثر المروي عن الشفاء –رضي الله عنها- ذكره ابن الجوزي في تاريخ عمر وابن عبد البر في الاستيعاب وتبعه ابن حجر في الإصابة كلهم بدون إسناد ولا عزو لأحد ولم يذكره ابن سعد في ترجمتها ولا ابن الأثير في أسد الغاية ولا الطبراني في المعجم الكبير، كما أنه ورد بصيغة التمريض كما أسلفت (رُوي).
2- ثم إن ابن حزم لا يرى حجية قول الصحابي فكيف يستدل بفعل عمر في هذه المسألة.
الجواب على الدليل السابع :
أن هذا في الجهاد وليس له علاقة بمسألتنا .. ونحن لا نختلف على وجود بعض النساء ذات تحمل وقوة ولكن الأصل في النساء خلاف ذلك والعبرة بالأعم الأغلب لا بالقليل النادر .
الجواب على الدليل الثامن :
وهذا من أعجب الأدلة فكيف يستدل بمثل هذه الحوادث التاريخية وتترك الأدلة من الكتاب والسنة فليس لهذه الحوادث الحق في تشريع الأحكام للمسلمين .
أما شجرة الدر أم خليل التركية فقصتها معلومة، فهي في الأصل كانت مملوكة محظية للملك الصالح نجم الدين أيوب –رحمه الله تعالى- وكانت لا تفارقه سفراً ولا حضراً من شدة محبته لها، ومات ولدها منه وهو صغير، وبعد مقتل ابنه توران شاه على أيدي المماليك بعد شهرين من توليه الحكم تولت الديار المصرية مدة ثلاثة أشهر، فكان يخطب لها وتضرب السكة باسمها، وقد تزوجت عز الدين التركماني وصار هو الملك، ولما علمت أنه يريد الزواج عليها بابنة صاحب الموصل أمرت جواريها أن يمسكنه لها فما زالت تضربه بقباقيبها والجواري يعركن في بطنه حتى مات وهو كذلك، ولما سمع مماليكه أقبلوا بصحبة مملوكه الأكبر سيف الدين قطز فقتلوها وألقوها على مزبلة. فامرأة مثل هذه تتخذ قدوة لنا؟!(1)
ويضاف هنا في الرد على هذا القول :
أن القول المنسوب للإمام ابن جرير فيه اضطراب فلم يوجد هذا القول في تفسيره بل أنكره الإمام القرطبي وابن العربي .
يقول المفسر الإمام ابن العربي ونقل عن محمد بن جرير الطبري وإمام الدين أنه يجوز أن تكون المرأة، قاضية ولم يصح ذلك عنه، ولعله كما نقل عن أبي حنيفة أنها إنما تقضي فيما تشهد فيه المرأة وليس بأن تكون قاضية على الإطلاق، ولا بأن يكتب لها منشور بأن فلانة مقدمة في الحكم إلا في الدماء والنكاح، وإنما ذلك كسبيل التحكيم أو الاستبانة في القضية الواحدة، بدليل قوله –صلى الله عليه وسلم- "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة" وهذا هو الظن بأبي حنيفة وابن جرير).(2)
2- جزم بعدم صحة ذلك لابن جرير الطبري المفسر القرطبي –رحمه الله- حيث قال: (ونقل عن محمد بن جرير الطبري أنه يجوز أن تكون المرأة قاضية، ولم يصح عنه ذلك).(3)
مناقشة أدلة القول الأول :
إن القول الأول الذي رجحناه في هذا البحث أدلته واضحة بينة وقد رددنا على جزء من الشبه المثارة حولها في ثنايا البحث وذلك عند ذكر الأدلة .
ولكن أكثر ما ورد عليه النقاش هو الاستدلال بحديث أبي بكرة رضي الله عنه وهو:
ماروه البخاري – بإسناده - عن أبي بكرة رضي الله عنه قال : لقد نفعني الله بكلمة سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم - أيام الجمل بعد ما كِدت أن ألْحَق بأصحاب الجمل فأقاتل معهم - قال : لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهل فارس قد ملّكوا عليهم بنت كسرى قال : لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة.
وسأذكر الآن ماورد على هذا الحديث من شبه وأذكر الرد عليها في حينه مستعينا بالله تعالى :
الشبهة الأولى :
لماذا لم يتذكر أبو بكرة راوية الحديث هذا الحديث إلا بعد ربع قرن وفجأة وفى ظل ظروف مضطربة ؟
الجواب :
لم ينفرد أبو بكرة رضي الله عنه بهذا الأمر ، فقد جاء مثل ذلك عن عدد من الصحابة ، أي أنهم تذكّروا أحاديث سمعوها من النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يرووها إلا في مناسباتها ، أو حين تذكّرها .
فمن ذلك :
1 – ما قاله حذيفة رضي الله عنه قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاماً ما ترك شيئا يكون في مقامه ذلك إلى قيام الساعة إلاَّ حدَّث به ، حَفِظَه مَنْ حَفِظَه ، ونَسِيَه مَنْ نَسِيَه ، قد علمه أصحابي هؤلاء ، وإنه ليكون منه الشيء قد نسيته فأراه فأذكُره كما يذكُر الرجل وجْـهَ الرَّجل إذا غاب عنه ثم إذا رآه عَرَفَـه .(1)
2 – وروى مسلم عن عمرو بن أخطب قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر وصعد المنبر فخطبنا حتى حضرت الظهر فنزل فصلى ثم صعد المنبر فخطبنا حتى حضرت العصر ثم نزل فصلى ثم صعد المنبر فخطبنا حتى غربت الشمس فأخبرنا بما كان وبما هو كائن فأعلمنا أحفظنا.(1)
3 – ما فعله عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما حينما تولّى الخلافة سنة 64 هـ ، فإنه أعاد بناء الكعبة على قواعد إبراهيم ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ما تَرَك ذلك إلا لحدثان الناس بالإسلام ، فلما زالت هذه العِلّة أعاد ابن الزبير بناء الكعبة .
وشكّ عبد الملك بن مروان في ذلك فهدم الكعبة ، وأعاد بناءها على البناء الأول .
روى الإمام البخاري أن عبد الملك بن مروان بينما هو يطوف بالبيت إذ قال : قاتل الله ابن الزبير حيث يكذب على أم المؤمنين ، يقول سمعتها تقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا عائشة لولا حدثان قومك بالكفر لنقضت البيت حتى أزيد فيه من الحِجْر ، فإن قومك قصروا في البناء ، فقال الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة : لا تقل هذا يا أمير المؤمنين فأنا سمعت أم المؤمنين تحدِّث هذا . قال : لو كنت سمعته قبل أن أهدمه لتركته على ما بنى ابن الزبير .(2)
فهذا عبد الملك يعود إلى قول ابن الزبير ، وذلك أن ابن الزبير لم ينفرد بهذا الحديث عن عائشة رضي الله عنها ، وإنما رواه غيره عنها .
هذا من جهة ومن جهة أخرى لم يقُل عبد الملك بن مروان لِمَ لَمْ يتذكّر ابن الزبير هذا إلا بعد أن تولّى ، وبعد ما يزيد على خمسين سنة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم !
إلى غير ذلك مما لا يُذكر إلا في حينه ، ولا يُذكر إلا في مناسبته .
ثم إن أبا بكرة رضي الله عنه لم ينفرِد برواية الحديث ، شأنه كشأن حديث عائشة في بناء الكعبة على قواعد إبراهيم ، إذ لم ينفرد به ابن الزبير عن عائشة .
فحديث : لا يُفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة قد رواه الطبراني من حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه .فزالت العِلّة التي علّلوا بها ، وهي تفرّد أبو بكرة بهذا الحديث ، ولو تفرّد فإن تفرّده لا يضر ، كما سيأتي – إن شاء الله – .
الشبهة الثانية :
زعم بعضهم أن الحديث مكذوب ، فقال : الكذب في متن الحديث فهو القول بأن النبي (صلى الله عليه وسلم) قاله لما بلغه أن الفرس ولوا عليهم ابنة كسرى . في حين أنه ليس في تاريخ الفرس أنهم ولوا عليهم ابنة كسرى ولا أية امرأة أخرى .
الجواب :
هذا أول قائل إن في البخاري حديثا موضوعا مكذوبا ، ولولا أنه قيل به لما تعرّضت له ! لسقوط هذا القول ، ووهاء هذه الشبهة !
فإن كل إنسان يستطيع أن يُطلق القول على عواهنه ، غير أن الدعاوى لا تثبت إلا على قدم البيِّنة وعلى ساق الإثبات .
فإن قوله : ( في حين أنه ليس في تاريخ الفرس أنهم ولوا عليهم ابنة كسرى ولا أية امرأة أخرى )
دعوى لا دليل عليها ولا مستند سوى النفي العام !
في حين أن القاعدة : الْمُثبِت مُقدَّم على النافي .
وكُتب التاريخ قبل كُتب الحديث تنص على ذلك .
قال ابن جرير الطبري في التاريخ :
ثم ملكت بوران بنت كسرى أبرويز بن هرمز بن كسرى أنو شروان .(1)
وقد عَقَد ابن الأثير في كتابه ( الكامل في التاريخ ) باباً قال فيه :
ذكر ملك ( بوران ) ابنة ابرويز بن هرمز بن أنو شروان .
ثم قال : لما قُتِل شهريراز مَلَّكَتْ الفرس ( بوران ) لأنهم لم يجدوا من بيت المملكة رجلا يُمَلِّكونه ، فلما أحسنتْ السيرة في رعيتها ، وعدلتْ فيهم ، فأصلحت القناطر ، ووضعت ما بقي من الخراج ، وردّت خشبة الصليب على ملك الروم ، وكانت مملكتها سنة وأربعة أشهر .(2)
.ولا يخلو كتاب تاريخ من ذِكر تولِّي ( بوران ) الْحُـكُم .
فقد ذَكَرها خليفة بن خياط ، واليعقوبي ، وابن خلدون ، واليافعي ، وكُتب تواريخ المدن ، كتاريخ بغداد ، وغيرها .
على أنه لو صحّ (أنه ليس في تاريخ الفرس أنهم ولوا عليهم ابنة كسرى ولا أية امرأة أخرى)
لكان فيه دليل على قائله وليس له !
كيف ذلك ؟
يكون قد أثبت أنه لا يُعرف لا في جاهلية ولا في إسلام أن امرأة تولّت مَنْصِباً !!
الشبهة الثالثة :
قول القائل : هل من المعقول أن نعتمد في حديث خطير هكذا على راوية قد تم جلده (أبو بكرة) في عهد عمر بن الخطاب تطبيقاً لحد القذف ؟!
الجواب :
سبق أن علِمت أن أبا بكرة رضي الله عنه لم ينفرد برواية الحديث .
ثم الجواب عن هذه الشبهة أن يُقال :
أولاً : لا بُـدّ أن يُعلم أن أبا بكرة رضي الله عنه صحابي جليل .