إسلاميات
“لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم” في رحاب آية
( وهي تجري بهم في موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين )
( وهي تجري بهم في موج كالجبال ) هذا تصوير لحالها في جريها بهم كأنها حاضرة أمام القارئ أو السامع ، أي تجري في أثناء موج يشبه الجبال في علوه وارتفاعه وامتداده ، وهو ما يحدث في ظاهر البحر عند اضطرابه من التموج والارتفاع بفعل الرياح ، واحده موجة وجمعه أمواج ، وأصل الموج الاضطراب ومنه : ( وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض ) ( 18 : 99 ) [ ص: 66 ] ومن عرف ما يحدث في البحار العظيمة من الأمواج عندما تهيجها الرياح الشديدة ، رأى أن المبالغة في هذا التشبيه غير بعيدة ، وصف لي بعضهم سفره في المحيط الهندي في زمن رياح الصيف التي يسمونها الموسمية بما معناه : كنت أرى السفينة تهبط بنا في غور عميق ، كواد سحيق ، نرى البحر من جانبيه كجبلين عظيمين يكادان يطبقان عليها ، فإذا بها قد اندفعت إلى أعلى الموج كأنها في شاهق جبل تريد أن تنقض منه ، والملاحون يربطون أنفسهم بالحبال على ظهرها وجوانبها ، لئلا يجرفهم ما يفيض من الموج عليها ، وراجع وصف البحر في تفسير قوله – تعالى – : ( هو الذي يسيركم في البر والبحر ) ( 10 : 22 ) ( ونادى نوح ابنه ) عند الركوب في السفينة وقبل جريانها ، ولم يسبق له ذكر ، وسيأتي بقية خبره في آخر القصة : ( وكان في معزل ) أي : مكان عزلة وانفراد دون أهله الذين ركبوا فيها ودون الكفار ( يابني اركب معنا ) أي : مع والدك وأهلك الناجين ( ولا تكن مع الكافرين ) المقضي عليهم بالهلاك .
( قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء ) أي : سألجأ إلى جبل عال يحفظني من الماء أن يصل إلي فأغرق ( قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم ) أي : لا شيء في هذا اليوم العصيب يعصم أحدا من أمر الله الذي قضاه ، فليس الأمر والشأن أمر ماء يرتفع بكثرة المطر كالمعتاد ، فيتقي الحازم ضره بما يقدر عليه من الأسباب ، وإنما هو أمر انتقام عام من أشرار العباد ، الذين أشركوا بالله وظلموا وطغوا في البلاد ، لكن من رحم الله منهم فهو يعصمه ويحفظه . وقد اختص بهذه الرحمة من أمر بحملهم في هذه السفينة ( وحال بينهما الموج ) وكان قد بدأ يرتفع في أثناء هذا الحديث حتى حال بين الولد ووالده ( فكان من المغرقين ) الهالكين .
أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم عن عائشة ، قالت : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : ( ( كان نوح مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم ، حتى كان آخر زمانه غرس شجرة فعظمت وذهبت كل مذهب ، ثم قطعها ، ثم جعل يعمل منها سفينة ، ويمرون فيسألونه فيقول : أعملها سفينة ، فيسخرون منه ، ويقولون : تعمل سفينة في البر فكيف تجري ؟ قال : سوف تعلمون . فلما فرغ منها وفار التنور وكثر الماء في السكك ، خشيت أم الصبي عليه وكانت تحبه حبا شديدا فخرجت إلى الجبل حتى بلغت ثلثه ، فلما بلغها الماء خرجت حتى استوت على الجبل ، فلما بلغ الماء رقبته رفعته بين يديها حتى ذهب الماء بها ، فلو رحم الله منهم أحدا لرحم أم الصبي ) ) .
هذا الحديث رواه من ذكرنا ، كلهم من طريق موسى بن يعقوب ، وقد قال الحاكم في مستدركه : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه اهـ . يعني : البخاري ومسلم ، وتعقبه [ ص: 67 ] الذهبي فقال : إسناده مظلم ، وموسى ليس بذاك . وذكر في الميزان ، ووافقه الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب أنهم اختلفوا في موسى هذا ، وثقه ابن معين ، وقال النسائي : ليس بالقوي ، وقال أبو داود : هو صالح ، وقال ابن المديني : ضعيف منكر الحديث .
وقد وصف الله حدوث هذا الطوفان بقوله في سورة القمر : ( كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر فدعا ربه أني مغلوب فانتصر ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر وحملناه على ذات ألواح ودسر تجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر ولقد تركناها آية فهل من مدكر فكيف كان عذابي ونذر ) ( 54 : 9 – 16 ) وإنه لوصف وجيز في أعلى مراقي البلاغة والتأثير ، ما أفظع هذا المنظر ! ما أشد هوله ! ما أعظم روعته ! ماء ينهمر من آفاق السماء انهمارا ، وأرض تنفجر عيونا خوارة فتفيض مدرارا ، ماء ثجاج يصير بحرا ذا أمواج ، خفيت من تحته الأرض بجبالها ، وخفيت من فوقه السماء بشمسها وكواكبها ، وكانت عليه السفينة كما كان عرش الله على الماء في بدء التكوين ، كأن ملك الله الأرضي قد انحصر فيها ، فتخيل أنك ناظر إليها كما صورها لك التنزيل ، تتفكر فيما يئول إليه أمر هذا الخطب الجليل ، واستمع لما بينه به الذكر الحكيم ، أوجز عبارة وأبلغها تأثيرا ، جعلت أعظم ما في العالم كأن لم يكن شيئا مذكورا .
( وقيل ياأرض ابلعي ماءك ) أي : وصدر من عالم الغيب الأعلى نداء خاطب الأرض والسماء ، بأمر التكوين الذي يسجد له العقلاء وغير العقلاء : ( ( ياأرض ابلعي ماءك ) ) كله الذي عليك ، أو الذي تفجر من باطنك ، إن صح أن ماء السماء صار بحرا ، والبلع : ازدراد الطعام أو الشراب بسرعة ( ويا سماء أقلعي ) أي : كفي عن الإمطار فامتثل الأمر في الحال ، وما هي إلا أن قيل : كن فكان ( وغيض الماء ) أي : غار في الأرض ونضب بابتلاعها له نضوبا ( وقضي الأمر ) أي : ونفذ ذلك الأمر بإهلاك الظالمين ، ونجاء المؤمنين ( واستوت على الجودي ) أي : واستقرت السفينة راسية على الجبل المعروف بالجودي ( وقيل بعدا للقوم الظالمين ) أي هلاكا وسحقا لهم ، وبعدا من رحمة الله – تعالى – بما كان من رسوخهم في الظلم واستمرارهم عليه ، وفقدهم الاستعداد للتوبة والرجوع إلى الله عز وجل ، وسيأتي مثل هذا في أمثالهم من أقوام الأنبياء : ألا بعدا لعاد قوم هود 11 : 60 ألا بعدا لثمود 11 : 68 ، والظاهر أن هذا الجبل قد غمره الماء ولم يرتفع فوقه إلا قليلا ، فلما بلغته السفينة كان الماء فوقه رقراقا وبدأ يتقلص ويغيض فاستوت عليه .
قرر علماء البلاغة الفنية أن هذه الآية أبلغ آية في الكتاب العزيز . أحاطت بالبلاغة من جميع جوانبها وأرجائها اللفظية والمعنوية التي وضعت لفلسفتها الفنون الثلاثة : المعاني [ ص: 68 ] والبيان والبديع ، وأن مثل هذا التفاضل بين الآيات الذي يقتضيه الحال والمقام ، لا ينافي بلوغ كل آية في موضعها وموضوعها درجة الإعجاز ، ولا يعد من التفاوت المعهود في كلام أشهر البلغاء كأبي تمام والمتنبي ، وكذا غيرهما من شعراء الجاهلية ومن بعدهم في الدرجات الثلاث العليا والسفلى وما بينهما ، فآياته كلها في الدرجة العليا المعجزة للبشر ، وإن كان لبعضها مزية على بعض كما تراه في تكرار القصة الواحدة من هذه القصص ، وقد بسطناه في تفسير آية التحدي بعشر سور مثله مفتريات : 13 من هذه السورة .
مثال ذلك ما تراه من بلاغة هذه الآية في باب العبرة المقصودة بالذات من سياق هذه القصص كلها ، وهو فوق ما ذكروه من نكت الفنون فيها ، وبيانه أن الله قد أنذر الظالمين وأوعدهم الهلاك في آيات كثيرة – ومنهم مكذبو الرسل عليهم السلام – كلها معجزة في بلاغتها ، ولكنك ترى في هذه الآية من تأثير تقبيح الظلم والوعيد عليه نوعا لا تجده في غيرها ، لأن حادثة الطوفان أكبر ما حدث في الأرض من مظاهر سخط الله – تعالى – على الظالمين ، وقد علم من أول القصة أنها عقاب للظالمين ، بيد أن إعادته في هذه الآية عقب تصوير حادثة الطوفان بارزة في أشد مظاهر هولها ، وإشعار القلوب عظمة الجبار العزيز الحكيم في الفصل فيها ، بما تتلاقى فيها نهايتها ببدايتها ، والتعبير عن هذه النهاية بالدعاء على الظالمين بالبعد والطرد الذي يحتمل عدة معان مذمومة شرها الطرد من رحمة الله – تعالى – ، يمثل لك هؤلاء الظالمين من قوم نوح بصورة تمثال من الخزي واللعن والرجس ، لا ترى مثله في أمثالهم من أقوام الأنبياء ، على ما تراه في التعبير عنها بالعبارات الرائعة في البلاغة وعلو الأسباب ، وإحداثها الرعب في القلوب ، كقوله – تعالى – : ( كذبت عاد فكيف كان عذابي ونذر إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر فكيف كان عذابي ونذر ) ( 54 : 18 – 21 ) وهذه الآيات في طبقة ما قبلها من قصة نوح في هذه السور وقد أوردناها آنفا . وقوله – تعالى – : ( كذبت ثمود وعاد بالقارعة فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية فهل ترى لهم من باقية ) ( 69 : 4 – 8 ؟ إلخ ) . وناهيك بما وصف به عذاب قوم لوط في هذه السورة وغيرها ، وسأصف الفرق بين البلاغتين : المعنوية الروحية والفنية ، وإضراب المثل لجلالها وجمالها عند العرب الخلص وأهل الفنون من العلماء في العلاوة الأولى من علاوات هذه القصة .
وحكمة هذه المبالغات في عقاب الظالمين والمجرمين من الغابرين ، إنما هي إنذار أمثالهم من الحاضرين ، وقد كرر عقوبة كل قوم في سورة القمر ، وكرر معها : ( ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ) ( 54 : 17 ) وترى الظالمين في كل زمان غافلين ، وترى [ ص: 69 ] المفسرين للقرآن يعنون ببسط إعراب القرآن وبلاغة عبارته ولفظه ، ولا يعنون ببسط عبرته ووعظه ، ولقد قال حكيم الشعراء أبو العلاء المعري في أهل عصره :
والأرض للطوفان مشتاقة لعلها من درن تغسل
المصدر هنا
حكمة هذه المبالغات في عقاب الظالمين والمجرمين من الغابرين ، إنما هي إنذار أمثالهم من الحاضرين ، وقد كرر عقوبة كل قوم في سورة القمر ، وكرر معها : ( ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ) ( 54 : 17 ) وترى الظالمين في كل زمان غافلين ، وترى [ ص: 69 ] المفسرين للقرآن يعنون ببسط إعراب القرآن وبلاغة عبارته ولفظه ، ولا يعنون ببسط عبرته ووعظه
ش