أبدا لم تكن رابعة العدوية في يوم من الأيام غانية ولا من أهل الفجور ولا ممن غرقوا في بحر الشهوات، كما صورها بعض الكتاب وأظهرتها شاشات السينما، بل كانت ومنذ طفولتها تقية تتحرى الله في كل تعاملاتها، وتشهد لها مقولتها، وهي مازالت طفلة، لأبيها: يا أبتِ لست أجعلك في حل من حرام تطعمنيه فقال لها : أرأيت إن لم أجد إلا حراما؟ فقالت: نصبر في الدنيا على الجوع خير من أن نصبر في الآخرة على النار.
هكذا كانت رابعة .. متدينة منذ طفولتها المبكرة وأيضا في مراهقتها ثم شبابها، حيث طلب الكثيرون زواجها منهم عبد الواحد بن زيد، وهو أحد مشاهير أهل التقوى خلال عصرها، فحجبته أياما حتى سئُلت أن يدخل عليها فقالت له: يا شهواني أطلب شهوانية مثلك أي شيء رأيت في من آلة الشهوة.
وخطبها محمد بن سليمان الهاشمي أمير البصرة على مائة ألف، وقال : لي غلة عشرة آلاف في كل شهر أجعلها لك. فكتبت إليه ما يسرني أنك لي عبد، وان كل مالك لي، وأنك شغلتني عن الله طرفة عين.
فهل كان من المعقول أن يكون خاطبوها على هذا القدر من التقوى والسلطة والجاه وأن تكون رابعة من النساء ذوات الماضي الشائن؟!
سؤال طرحه دكتور عبد المنعم الحفني في كتابه " رابعة العدوية .. إمامة العاشقين والمحزونين"، وأجاب عنه بأن أقوال رابعة ومحاوراتها لرجال الفكر والدين والدنيا تدل على ذكاء عال جدا، ووعي وحس دينيين وشخصية متميزة من كافة النواحي. ولم تعرف عن رابعة أية شائنة ، لا في سلوكها ولا في أقوالها ولا في محيطها من النساء والرجال.
شهيدة العشق الإلهي
ورابعة .. هي مؤسسة مدرسة الحب الإلهي في الإسلام وشهيدة العشق الإلهي .. روحانية وراهبة من راهبات الفكر الصوفي الأصيل .. صاحبة فضل وفكر.. رأس العابدات والناسكات القانتات الخائفات الوجلات.
وبالعودة إلى سيرة رابعة .. نجد أن الجاحظ أول من كتب عنها. وقد عاش في البصرة في زمن قريب من زمنها، وربما سمع بها في صغره، أو رآها رأى العين، وهو يذكرها فقال : ومن النساء (يقصد من أهل البيان) رابعة القيسية من آل عتيك بنو عدوة، ولهذا تسمى العدوية، وأما كنيتها فأم الخير بنت إسماعيل وبذلك يحدد الجاحظ نسبها.
وذكرها الزركلي فقال : إنها رابعة بنت إسماعيل العدوية، وهي أم الخير مولاة آل عتيك، البصرية، صالحة مشهورة من أهل البصرة، ومولدها بها.
وقال بن خلكان: قبرها يزار وهي بظاهر القدس من شرقية على رأس جبل يسمى الطور.
وكانت وفاتها 185 هـ وقيل غير ذلك وعمرها فوق الثمانين.
رؤية أبيها
ولدت رابعة في ليلة لم يكن من شيء في بيت أهلها، فأبوها فقير، ولم يكن في البيت قطرة سمن يدهنوا بها موضع خلاصها ولا ما يستنيروا به، ولا قطعة قماش يلفون بها الوليدة، وكانت للأب ثلاث بنات فسميت رابعة، لأنها رابعتهن.
وسألته زوجته أن يذهب إلى الجيران في طلب نقطة زيت لإضاءة المصباح، ولكنه كان قد عاهد نفسه ألا يسأل الناس شيئا، ولو طلب لأعطوه ومع ذلك ذهب إلى الجارة ودق الباب وعاد يقول إنهم لم يفتحوا له وبكت امرأته.
ونام الرجل فرأى الرسول صلى الله عليه وسلم في منامه يقول له ألا يحزن، فهذه البنت الوليدة هي سيدة وأن سبعين ألفا من أمته ليرجون شفاعتها، وأمره أن يذهب في الغد إلى أمير البصرة عيسى زاذان، ويكتب له ورقة يقول له فيها إنه يصلي مائة صلاة في اليوم وأربعمائة صلاة يوم الجمعة إلا أنه نسى الله في الجمعة الفائتة وعليه أن يكفر عن ذلك بأربعمائة دينار من ماله الحلال يدفعها لكاتب هذه الورقة.
وعندما استيقظ أبو رابعة كتب الرسالة وأعطاها للحاجب يوصلها للأمير وقرأها الأمير فأمر بأن يُصرف لكاتب الرسالة الأربعمائة دينار، بالإضافة إلى ألف أخرى يقسمونها على الصوفية.
كانت حـــرة
وكبرت رابعة وتوفت الأم ثم الأب وحدثت مجاعة في البصرة فتمزق شمل الأسرة وتفرقت أخواتها، وخرجت رابعة تهيم على وجهها حتى رآها من سولت له نفسه أن يأسرها ويبيعها بستة دراهم إلى شخص أخذها إلى بيته خادمة وأثقل عليها العمل وخرجت يوما تقضي مصلحة فتبعها رجل فخافت وهربت، وضلت الطريق فارتمت على الأرض تبكي وتناجي ربها أنها يتيمة وأسيرة، وأنها تائهة فهل كان ذلك لأن الله غير راض عنها.
وهتف بها هاتف من أعماقها :"لا تحزني لأنه في يوم الحساب فإن المقربين سينظرون إليك ويحسدونك على ما أنت فيه"، وأثلج صدرها أن تسمع ذلك ، فسعت إلى بيت سيدها وصارت تصوم وتخدم سيدها وتصلي لربها وتقوم الليل.
وفي ليلة استيقظ سيدها يقضي حاجة فنظر حيث رابعة فوجدها ساجدة وسمعها تقول يا رب لكم يتمنى قلبي طاعتك وأن أبذل عمري متعبدة لك ولو كان أمري بيدي لما توقفت عن هذه العبادة، ولكن أمري بيد سيدي.
ورآها سيدها وكأن هالة من النور تحيط برأسها وهي ساجدة تصلي حتى طلع النهار فنادى عليها وتحدث إليها واعتقها وسألها أن تبقى في بيته لو شاءت وسيكون الجميع في خدمتها وان تنطلق حرة إذا رغبت ومتى شاءت وودعت رابعة أهل البيت ورحلت وانقطعت للعبادة كما كانت ترجو.
إنشـــاد النــاي
وقيل أن رابعة، بعد تحررها، احترفت مهنة العزف على الناي مدة، ثمر رجعت واعتزلت وبنت لنفسها خلوة انقطعت فيها للعبادة. وحاشا أن يكون العزف على الناي اندفع برابعة في طريق الشهوات مع ما كانت عليه من جمال باهر.
ويفند الكاتب قول الفيلسوف عبد الرحمن بدوي، صاحب كتاب شهيدة العشق الآلهي: رابعة العدوية، بأنها غرقت في بحر الشهوات بعد عتقها بدلالات كثيرة منها الوراثة والبيئة، بالإضافة إلى الاستعداد الشخصي. وكان جيران أبيها يطلقون عليه العابد، وما كان من الممكن وهذه تنشئة رابعة أن يفلت زمامها.
كما أنها رفضت الزواج بشدة، وقد سألها الحسن البصري أن تتزوجه فردت عليه بأن الزواج ضروري لمن يكون له الخيار في أمر نفسه، وهي لا خيار لها في نفسها فهي لربها وفي ظل أوامره ولا قيمة لشخصها.
وزواج رابعة قضية مهمة اختلف فيها المؤرخون فهناك من قال بأنها تزوجت ولم يتقدم لها الخطاب إلا بعد موت زوجها، والبعض يؤكد بعدم زواج رابعة، وهو ما ذهب إليه مؤلف هذا الكتاب، للأسباب التالية:
- لأنها لم تكن ترى فيها ما يمكن أن يشتهيه الرجل.
- لأنها كانت زاهدة في الدنيا، فكيف يمكن أن يكون لها فيها الأهل والولد؟
- لأنها كانت في قلق وكرب من الآخرة، فكيف تحتاج إلى الزوج وتتفرغ له.
-أنها كانت تجد راحتها في خلوتها.
- أنها صيرت الموت فطرها على الحقيقة، فأماتت منها شهوتها، ومعني قول رابعة تصيير الموت فطرا أنها ما عادت تشتهي الرجال.
تصلي الليل كله
وضُرب المثل برابعة في قمة الحب لله وتفانيها في عبادته والتقرب إليه، حيث وصفت عبده بن أبي شوال، وكانت تخدم رابعة، حالها بقولها : كانت رابعة تصلّي الليل كله، فإذا طلع الفجر هجعت في مصلاها هجعة خفيفة حتى يسفر الفجر، فكنت أسمعها تقول إذا وثبت من مرقدها ذاك وهي فزعة: يا نفس كم تنامين! وإلى كم تقومين! يوشك أن تنامي نومة لا تقومين منها إلا لصرخة يوم النشور!
وأكملت: فكان هذا دأبها دهرها حتى ماتت، فلما حضرتها الوفاة دعتني فقالت: يا عبدة لا تؤذني بموتي أحدا، ولفيني في جُبتي هذه، فلما ماتت كّفناها في تلك الجبة وخمار صوف كانت تلبسه . ورأيتها بعد ذلك بسنة أو نحوها في منامي، عليها حلة استبرق خضراء وخمار من سندس أخضر لم أر شيئا أحسن منه . فقلت يا رابعة: ما فعلت بالجبة التي كفّناك فيها والخمار الصوف؟ قالت : أنه والله نزع عني، وأُبدلت به هذا الذي ترينه علىّ، وطُويت أكفاني وخُتم عليها ، ورُفعت في عِلّيين لتكمل لي بها ثوابها يوم القيامة. وسألتها : مريني بأمر أتقرّبُ به إلى الله عز وجل؟ فقالت: عليك بكثرة ذِكره، أوشك أن تُغبطي بذلك في قبرك!
وكانت رابعة تصلي ألف ركعة في اليوم والليلة، فقيل لها ما تطلبين بهذا؟ قالت: لا أريد به ثوابا وإنما أفعله لكي يسيرّ رسول الله يوم القيامة، فيقول للأنبياء انظروا إلى امرأة من أمتي هذا عملها!
وتصوم سبع أيام وليالي
وقيل إن رابعة صامت في إحدى المرات سبع ليالي وسبعة أيام على التوالي، فلم تكن تأكل شيئا ولا تنام في الليل وانقطعت للعبادة وفي الليلة الثامنة وقد شق عليها قالت في نفسها إلى متى هذا العذاب.
فسمعت لتوها صوت الباب، فلما فتحت ناولها أحدهم طعاما في صحن فأخذته ووضعته لتوقد المصباح فجاء قط وأكل ما في الصحن وتبينت رابعة ما حدث فقالت أفطر على حبة ماء وذهبت لتحصيل الماء فانطفـأ المصباح وسقطت جرة الماء من يدها فصرخت يارب. ماذا تريد بهذه المسكينة؟
وكانت رابعة كثيرة البكاء والنواح وما من سبب لذلك من ألم أو وجع. وسألوها عن ذلك فقالت إن علتها التي تتوجع منها ما من دواء لها سوى مشاهدة الله تعالى وان ما يعينها على احتمال علتها إنما هو رجاؤها في أن يتحقق لها ذلك في الآخرة.
قالت رابعـــة
روي عن رابعة العدوية الكثير من الأقوال المأثورة، منها أن الثوري قال لها يوما لكل عقد شريطة ولكل إيمان حقيقة فما حقيقة إيمانك؟ قالت: ما عبدته خوافا من ناره ولا حبا لجنته، فأكون كالأجير السوء، إن خاف عمل، أو إذا أُعطي عمل، بل عبدته حبا له وشوقا إليه.
وقيل كان صالح المرّى يقول كثيرا: من أدمن قرع باب يوشك أن يُفتح له، فقالت له رابعة: إلى متى تقول هذا؟ ومتي أُغلق هذا الباب حتى يُستفتح! فقال صالح: شيخ جهيل وامرأة عَلمت.
وكانت تقول يا رب كل ما كتبته لي من خير في الدنيا فأعطه لأعدائك وكل ما كتبته لي في الجنة فامنحه لأصدقائك، لأني لما أطلب إلا وجهك.
وسئلت رابعة عن المحبة فقالت: ليس للمحب وحبيبه بين، وإنما هو نطقُ عن شوق، ووصف عن ذوق، فمن ذاق عرف، ومن وصف فما اتصف، كيف تصف شيئا أنت في حضرته غائب، بوجوده دائب، وشهوده ذاهب، وبوحك منه سكران، وبفراغك له ملآن، وبسرورك له ولهان! فالهيبة تخرس اللسان عن الإخبار، والحيرة توقف الجبان عن الإظهار، والغيرة تحجب الأبصار عن الأغيار، والدهشة تعقل العقول عن الإقرار، فما ثم إلا دهشة دائمة، وحيرة لازمة ، وقلوب هائمة وأسرار كاتمة، وأجساد من السُقم، والمحبة بدولتها الصارمة وفي القلوب حاكمة.
وكانت تقول: يا رب لو كنت أعبدك مخافة النار فأحرقني بها ولو كنت أطمع في الجنة فاحرمني منها وإن كنت لا أعبدك إلا لوجهك فلا تحرمني مشاهدته.
وكانت تقول إن حبها لله لم يترك في قلبها مكانا لتكره، حتى ولو كان هذا الذي ستكرهه هو إبليس.