ديننا العظيم كفل لناحياة هنيئة ، حتى ولو نُغصت بشيء من المصائب والشدائد ، والإنسان في هذه الحياة معرض لمثل هذه المواقف ، ولاتسلم الأيام لأحد ، فهذا مريض هو ، أو أحد ممن يحب ، وذاك أصيب بخسارة في ماله ، وآخر حياته منغصة مع زوجته ، ورابع فقد حبيباً له ، وخامس عقيم ليس له ولد وسادس قد أثقله دينه وسابع ...وهكذا . فهل المسلم يختلف عن غيره في مواجهة الظروف الصعبة ، وهل عالج الإسلام حر المصيبة وحزنها ، نقول نعم ، فديننا العظيم بيَن الداء والدواء ، وكان من أجمل من تكلم في هدي النبي صلى الله عليه وسلم في علاج حر المصيبة وحزنها ، الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه القيم زاد المعاد ، وإليكم طرفاً مما ذكر رحمه الله عسى الله أن يفرج عن كل صاحب هم همه ..
وإن هذه العلاجات بإذن الله سلوة للمكروبين ودواء للمهمومين وطمأنينة للمغمومين ، وراحة للمحزونين ..
قال تعالى : {وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون} . وفي (المسند) عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : (ما من أَحَدٍ تصيبُه مصِيبَةٌ فيقولُ : إنَّا لله وإنَّا إليه رَاجِعُونَ ، اللهم أجرنِي في مُصيبَتى وأخلفْ لي خيراً منهَا ، إلا أجاَرَه الله في مصِيبَتِهِ ، وأخلفَ لهُ خَيراً منها).
وهذه الكلمة من أبلغ علاج المصاب ، وأنفعه له في عاجلته وآجلته ، فأنها تتضمن أصلين عظيمين إذا تحقق العبد بمعرفتهما تسلى عن مصيبته.
أحدهما : أن العبد وأهله وماله ملك لله عز وجل حقيقة ، وقد جعله عند العبد عارية ، فإذا أخذه منه ، فهو كالمعير يأخذ متاعه من المستعير .
والثاني : أن مصير العبد ومرجعه إلى الله مولاه الحق ففكره في مبدئه ومعاده من أعظم علاج هذا الداء .
ومن علاجه أن يعلم علم اليقين أنَّ ما أصابه لم يكن ليُخطئه ، وما أخطأه لم يكن ليُصيبه . قال تعالى : {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ في الأَرْضِ وَلاَ في أَنْفُسِكُمْ إلاَّ في كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَا آتَاكُمْ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} .
ومن علاجه أن ينظر إلى ما أُصيبَ به ، فيجد ربه قد أبقى عليه مثله ، أو أفضل منه ، وادَّخر له إن صبرَ ورضِىَ ما هو أعظمُ من فوات تِلك المصيبةِ بأضعافٍ مُضاعفة ، وأنه لو شاء لجعلها أعظم مما هي .
ومن عِلاجه أن يُطفئَ نارَ مصيبته ببرد التأسِّى بأهل المصائب ، وليعلم أنه في كل وادٍ بنو سعد .
حدثني من أثق به أنه كان يعاني كثيراً عندما يقضي حاجته أجلكم الله لمرض في بطنه ، يقول وكنت أتفف وأتضجر من هذا المرض ، حتى قدر الله لي أن أسمع عن مستشفى تدعى بمستشفى ... وذكرها ، فإذا جل من فيها معاق إعاقة تامة ، أحدهم رجل في بنَاء سقط جدار على ظهره فسبب له شللاً رابعياً ، حتى أنه لايستطيع أن يقضي حاجته إلا بداوء يتناوله لهذا الغرض ، يقول صاحبي فراجعت وقلت ،ياسبحان أنت تتضجر من ألم بسيط وهذا قعيد الفراش أسير المرض ، فنسأل الله لهما الشفاء العاجل .
ومِن عِلاجها : أن يعلم أنَّ الجزع لا يردها ، لايرد تلك المصيبة بل يُضاعفها ، وهو في الحقيقة من تزايد المرض .
ومِن عِلاجها : أن يعلم أنَّ فوت ثواب الصبر والتسليم ، وهو الصلاةُ والرحمة والهداية التي ضمِنَها الله على الصبر والاسترجاع ، أعظمُ مِن المصيبة في الحقيقة .
ومِن عِلاجها : أن يعلم أنَّ الجَزَعَ يُشمت عدوه ، ويسوء صديقه ، ويُغضب ربه ، ويَسرُّ شيطانه ، ويُحبط أجره ، ويُضعف نفسه ، وإذا صبرَ واحتسب أنضى شيطانه ، وردَّه خاسئاً ، وأرضى ربه ، وسرَّ صديقه ، وساء عدوه ، وحمل عن إخوانه ، وعزَّاهم هو قبل أن يُعَزُّوه ، فهذا هو الثباتُ والكمال الأعظم ، لا لطمُ الخدودِ ، وشقُّ الجيوب ، والدعاءُ بالوَيْل والثُّبور ، والسخَطُ على المقدور .
ومِن عِلاجها : أن يعلم أنَّ ما يُعقبه الصبرُ والاحتساب من اللَّذة والمسرَّة أضعافُ ما كان يحصُل له ببقاء ما أُصيبَ به لو بقى عليه ، ويكفيه من ذلك بيتُ الحمد الذي يُبنى له في الجنَّة على حمده لربه واسترجاعه ، فلينظرْ : أىُّ المصيبتين أعظمُ ؟ مصيبةُ العاجلة ، أو مصيبةُ فواتِ بيتِ الحمد في جنَّة الخلد ؟
وفى الترمذى مرفوعاً بسند حسن : (يَوَدُّ ناسٌ يَوْمَ القيامة أنَّ جُلُودَهُم كانت تُقْرَضُ بالمقارِيض في الدُّنيا لما يَرَوْنَ من ثوابِ أهلِ البلاءِ) .
وقال بعضُ السَّلَف : لولا مصائبُ الدنيا لورَدْنا القيامة مفاليس .
ومن عِلاجها : أن يعلم أنَّ حظه من المصيبة ما تُحدثه له ، فمن رضى ، فله الرِّضى ، ومن سخِط ، فله السَّخَط ، وأن الله إذ أحب قوم ابتلاهم ففى (مسند الإمام أحمد) والترمذىِّ بسند صحيح ، قول النبي صلى الله عليه وسلم : (إنَّ اللهَ إذا أحبَّ قوماً ابتلاهُم ، فمَن رَضِىَ فَلَهُ الرِّضى ، ومَن سَخِط فَلَهُ السُّخْطُ) . زاد أحمد : (ومَن جَزِع فَلَهُ الجَزَعُ ) .
ومِن عِلاجها : أن يعلم أنه وإن بلغ في الجَزَع غايتَه ، فآخِرُ أمره إلى صبر الاضطرار ، وهو غيرُ محمود ولا مُثاب ، قال بعض الحكماء : العاقلُ يفعل في أوَّل يوم من المصيبة ما يفعله الجاهل بعد أيام ، ومَن لم يصبْر صَبْرَ الكِرَام ، سلا سُلُوَّ البهائم
وفى (الصحيح) مرفوعاً : (الصَّبْرُ عند الصَّدْمَةِ الأُولى) .
ومِن عِلاجها : أن يعلم أنَّ أنفع الأدوية له موافقةُ ربه وإلهه فيما أحبَّه ورضيه له ، وأن خاصيَّة المحبة وسِرَّها موافقةُ المحبوب ، فمَن ادَّعى محبة محبوب ، ثم سَخِطَ مَا يُحِبُّه ، وأحبَّ ما يُسخطه ، فقد شهد على نفسه بكذبه ، وتَمقَّتَ إلى محبوبه .
وقال أبو الدرداء : إنَّ الله إذا قضى قضاءً ، أحب أن يُرضَى به .
وهذا دواءٌ وعِلاجٌ لا يَعمل إلا مع المُحبِّين ، ولا يُمكن كُلّ أحد أن يتعالج به .
ومِن عِلاجها : أن يُوازِن بين أعظم اللَّذتين والمتعتين ، وأدْوَمِهما : لذَّةِ تمتعه بما أُصيب به ، ولَذَّةِ تمتُّعه بثواب الله له ، فإن ظهر له الرجحان ، فآثر الراجِحَ ، فليحمدِ الله على توفيقه ، وإن آثر المرجوحَ مِن كل وجه ، فليعلم أنَّ مصيبتَه في عقله وقلبه ودينه أعظمُ مِن مصيبته التي أُصيب بها في دنياه
ومِن عِلاجها : أن يعلم أنَّ الذي ابتلاه بها أحكمُ الحاكمين ، وأرحمُ الراحمين ، وأنه سبحانه لم يُرسل إليه البلاءَ ليُهلكه به ، ولا ليُعذبه به ، ولا ليَجْتاحَه ، وإنما ابتلاه ليمتحن صبره ورضاه عنه وإيمانه ، وليسمع تضرُّعه وابتهالَه ، وليراه طريحاً ببابه ، لائذاً بجنابه ، مكسورَ القلب بين يديه ، رافعاً قصصَ الشكوى إليه .
ومِن عِلاجها : أن يعلم أنه لولا مِحَنُ الدنيا ومصائبُها ، لأصاب العبدَ مِن أدْواء الكِبْرِ والعُجب والفرعنة وقسوة القلب ما هو سببُ هلاكه عاجلاً وآجلاً ، فمن رحمةِ أرحم الراحمين أن يتفقَّده في الأحيان بأنواع من أدوية المصائب ، تكون حِمية له من هذه الأدواء ، وحِفظاً لصحة عُبوديتهِ ، واستفراغاً للمواد الفاسدة الرديئة المهلكة منه ، فسبحانَ مَن يرحمُ ببلائه ، ويبتلى بنعمائه
ومن علاجها .. أن المصائب تذكر العبد بالله سبحانه فيلتجأ إليه وينطرح عند بابه ويدعوه ويتوسل إليه
جاء في (الصحيحين) من حديث ابن عباس ، أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الكَرْب : (لا إلهَ إلا اللهُ العَظِيمُ الحَلِيمُ ، لا إلهَ إلا اللهُ ربُّ العرشِ العَظِيمُ ، لا إلهَ إلا اللهُ رَبُّ السَّمَواتِ السَّبْع ، ورَبُّ الأرْض رَبُّ العَرْشِ الكَرِيمُ) .
وفى (جامع الترمذىِّ بسند حسن ) عن أنس ، أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يوصي امرأة فيقول ما يمنعك أن تسمعي ما أوصيك [به] ؟ [أن ] تقولي إذا أصبحت و إذا أمسيت : يا حي يا قيوم برحمتك استغيث ، و أصلح لي شأني كله ، و لا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبدا
وفى (سنن أبى داود بسند حسن ) ، عن أبى بكر الصِّدِّيق ، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (دَعَواتُ المكروبِ : اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أرجُو ، فَلا تَكِلْنِى إلى نَفْسى طَرْفَةَ عَيْنٍ ، وأصْلِحْ لى شَأنى كُلَّهُ ، لا إله إلا أنْتَ) .
وفى (مسند الإمام أحمد بسند صحيح ) عن ابن مسعود ، عن النبىِّ صلى الله عليه وسلم قال : (ما أصابَ عبداً هَمٌ ولا حُزْنٌ فقال : اللَّهُمَّ إنِّى عَبْدُكَ ، ابنُ عَبْدِكَ ، ابنُ أمتِكَ ، ناصِيَتى بيَدِكَ ، مَاضٍ في حُكْمُكَ ، عَدْلٌْ في قضاؤكَ ، اسألُكَ بكل اسْمٍ هُوَ لكَ سَمَّيْتَ به نَفْسَكَ ، أو أنزلْتَه في كِتَابِكَ ، أو عَلَّمْتَهُ أحداً من خَلْقِك ، أو استأثَرْتَ به في عِلْمِ الغَيْبِ عِنْدَكَ : أن تَجْعَل القُرْآنَ العظيم رَبيعَ قَلْبِى ، ونُورَ صَدْرى ، وجِلاءَ حُزنى ، وذَهَابَ هَمِّى ، إلا أذْهَبَ اللهُ حُزْنَه وهَمَّهُ ، وأبْدَلَهُ مكانَهُ فرحاً) .
فاللهم إنا نسألك أن تفرج هم المهمومين وتكشف الغم عن المغمومين وتقضي الدين عن المدينين وتشفى مرضانا ومرضى المسلمين .... .