قصة قابيل وهابيل التي عرضها القرآن الكريم في سورة المائدة، تحمل في طياتها الجريمة الأولى التي عرفتها البشرية، القتل، وهي جريمة كل عصر منذ أن بدأت في ذلك العهد السحيق وحتى يومنا هذا، فلا يكاد يخلو منها بلد، ولا تكاد تمر فترة إلا ونصدم بمثل هذه الفاجعة؛ أخ يقتل أخاه.
تأتي هذه القصة لتكشف عن بشاعة الجريمة وفجورها، وهي تقدم أنموذجا لطبيعة الشر والعدوان، بل إن صح التعبير هي نوع من العدوان الصارخ الذي لا مبرر له كما تقدم، وترسم في الوقت نفسه الجريمة المنكرة التي يرتكبها الشر والعدوان الصارخ الذي يثير الضمير.
تفسير الآيات
يقول المفسرون إن هذه الآيات جاءت في أعقاب حديث طويل عن رذائل بني إسرائيل مع موسى عليه السلام، الذين امتنعوا عن طاعته وقالوا له بكل وقاحة وسوء أدب “فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ”، فتأتي هذه الآيات وما بعدها تخفيفا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أصابه من قومه، مؤكدة أن الذين يخالفون أنبياءهم إنما يسلكون الطريق نفسه الذي سلكه قابيل في عدوانه على أخيه هابيل.
وعن بداية “الحكاية” ذكر عبدالله بن مسعود، رضي الله عنه، وعبدالله بن عباس، رضي الله عنهما، أن آدم عليه السلام -كما يقول ابن كثير- كان يزوج ذكر كل بطن بأنثى الآخر، وأن هابيل أراد أن يتزوج بأخت قابيل، وكان اكبر من هابيل وأخت هابيل أحسن، فأراد قابيل أن يستأثر بها على أخيه، وأمره آدم عليه السلام أن يزوجه إياها فأبى، فأمرهما أن يقربا قربانا، فقرب هابيل جذعة سمينة، وكان صاحب غنم، وقرب قابيل حزمة من زرع من رديء زرعه، فنزلت نار فأكلت قربان هابيل وتركت قربان قابيل، فغضب وقال: لأقتلنك حتى لا تنكح أختي فقال: إنما يتقبل الله من المتقين، وكان آدم مباشرا لتقريبهما القربان والتقبل من هابيل دون قابيل، فقال قابيل لآدم: إنما تقبل منه لأنك دعوت له ولم تدع لي، وتوعد أخاه فيما بينه وبين نفسه، فلما كان ذات ليلة أبطأ هابيل في الرعي، فبعث آدم أخاه قابيل لينظر ما أبطأ به، فلما ذهب إذ هو به، فقال له: تقبل منك ولم يتقبل مني، فقال: إنما يتقبل الله من المتقين، فغضب قابيل عندها وضربه بحديدة كانت معه فقتله، وقيل: إنما قتله بصخره رماها على رأسه وهو نائم فشدخته، وقيل: بل خنقه خنقا شديدا وعضه كما تفعل السباع، فمات، والله أعلم.
فارق أخلاقي
هذا هو مجمل القصة التي أوردتها الآيات الكريمة، وهي تدل على ما بين الأخوين من فارق أخلاقي واضح، يؤكده قول هابيل التقي: “إنما يتقبل الله من المتقين”، أي، كما يقول د. محمد سيد طنطاوي، إن الله تعالى يتقبل الطاعات والصدقات من عباده المتقين الذين يخشونه في السر والعلن، بل إن هابيل انتقل من وعظ أخيه بتطهير قلبه إلى تذكيره بما تقتضيه وشائج الأخوة بينهما من علاقة سمحة، فقال له: “لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ”، وحجة هابيل في ذلك قوله: “إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ”، ولم يكتف هابيل بكل ما قاله لأخيه ليردعه عن جريمته، واستمر في وعظه، محذرا إياه من المصير المظلم الذي ينتظره إذا صمم على رأيه، بقوله: “إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ” لأن ذلك هو العقاب الإلهي العادل الذي يستحقه الظالمون الذين ظلموا أنفسهم وظلموا غيرهم أيضا.
والغريب في الأمر أنه رغم كل هذه التحذيرات وتلك النصائح، لم يرتدع قابيل عما انتواه بل صمم على ارتكاب الجريمة النكراء، وهو ما يصوره قوله تعالى: “فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ”، نعم سولت له نفسه الأمارة بالسوء تلك الكارثة، وشجعته على القتل، ليصبح من الخاسرين في الدنيا بفقد أخيه وفي الآخرة بتلقي عذاب الله الأليم في نار جهنم والعياذ بالله.
لكن الأمر لم ينته عند هذا الحد، فبعد أن فعل قابيل فعلته، لم يدر ماذا يفعل بجثة القتيل، لأنها المرة الأولى التي يقتل فيها إنسان، والمرة الأولى -أيضا- التي يتم فيها دفن واحد من البشر، فما كان من المولى عز وجل -برحمته الواسعة- إلا أن: “فَبَعَثَ اللّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ”، نعم أرسل الله له الغراب يحفر وينبش في الأرض بمنقاره ورجليه ليعلمه كيف يدفن جثة أخيه الذي قتله بعد أن أصبح عرضه للتعفن والتحلل.
هنا، وهنا فقط، شعر قابيل بالحسرة والندم، لأنه لم يصل إلى ما فعله الغراب واهتدى إليه.
رذيلة الحسد
وهذه القصة الربانية التي عرضها القرآن الكريم بطريقته المعجزة، تؤكد أن إخلاص النية لله سبحانه وتعالى في القول والعمل هي أساس القبول عند الله عز وجل، وهو ما يوضحه قوله سبحانه أيضا، “إنما يتقبل الله من المتقين”، كما تؤكد أن ندم الإنسان على ما وقع منه من أخطاء لا يعني رفع العقوبة عنه وإنما يتم رفعها عن الذين يعقبون ندمهم بتوبة صادقة وعزم أكيد على عدم العودة إلى المعصية مع رد المظالم إلى أهلها.
كما تدل قصة قابيل وهابيل هذه على أن “رذيلة الحسد”، كما يقول د. طنطاوي، إذا تمكنت من النفس البشرية أوردتها المهالك ووصلت بها إلى الهاوية، بل وزينت لها البغي والطغيان والإثم والعدوان، وهل بعد قتل الأخ من جريمة.
وهذا هو المعنى الواضح الجلي الذي تعرضه الآيات الكريمة لأن حسد قابيل لهابيل كان على رأس الأسباب التي حملته على فعل جريمته الشنعاء.>>> ,والله المستعان
تم تحرير الموضوع بواسطة :Galal Hasanin
بتاريخ:03-04-2013 02:24 صباحاً