اجتنبوا كثيراً من الظن:
صيانة أعراض الناس والمحافظة على حرماتهم وسمعتهم وكرامتهم من فرائض الاسلام وواجباته الأساسية حتى تقوى صلات الأفراد، وحتى يكونوا كالبنيان المرصوص يشد بعضاً بعضه، وبذلك ينمحي من بينهم كل سبب من أسباب الفرقة، وينتفي كل ما يزرع في النفوس العداوة والبغضاء.
ولكي يتم ذلك، أوجب الاسلام على المسلم أن يحسن الظن بإخوانه المسلمين، فلا يحل لأحد منهم أن يتهم غيره بفحش أو ينسب إليه الفجور أو يسند إليه الإخلال بالواجب أو النقص في الدين أو المروءة، أو أي فعل من شأنه أن ينقص من قدره أو يحط من مكانته، ما لم يكن ثمة سبب يوجب تهمته، أو أمارة يوجب الشرع العمل بها، كأن يشهد الشهود العدول، أو يقر المتهم بما صدر عنه، أو يقف مواقف التهم، ونحو ذلك من الأدلة التي اعتبرها الشارع.
وقد أمر الله بالتثبت؛ ونهى عن تصديق الوهم والأخذ بالحدس والظن، فقال: (ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً) الإسراء/ 36.
أي لا تقل إني سمعت ـ والحال إنك لا تسمع، ولا رأيت ـ والحال إنك لم تر، ولا علمت ـ والحال إنك لم تعلم؛ ولا تتبع الظن في أي قضية من القضايا فتصدق ما لا يتفق مع الواقع ولا مع العلم الصحيح، بل استعمل الوسائل الموصلة إلى الحقيقة، فإنك مسؤول أمام الله عن ذلك كله.
وليس الأمر في التثبت والتبين مقصوراً على الفاسق، بل هو عام ينتظم الفاسق وغيره ممن ليس أهلاً للثقة بقوله والاطمئنان إلى خبره. وقد عتب الله على الذين يسارعون إلى التصديق دون أن يثبتوا، فقال: (لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء فإذا لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون).
والظن المأمور باجتنابه هو التهمة التي لا دليل عليها، واتهام الغير بدون دليل موقع في الإثم ومفضٍ إلى العقوبة؛ والرسول (ص) يقول محذراً من الظنون: (إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث). ويقول: (حسن الظن من حسن العبادة).
- إساءة الظن بمن وقف مواقف التهم:
فإن تظاهر إنسان بمعصية، أو اشتهر بتعاطي الريب، أو جاهر باقتراف السيئات، أو دخل مداخل السوء، فلا لوم على مَن أساء به الظن، لأن الظن هنا أصبح حقيقة. وما دام ذلك كذلك يكون بعضه من تمام الإيمان. يقول الرسول (ص): (مَن أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان).
وروي عن عمر أنه قال: (مَن دخل مداخل السوء فلا يلومن مَن أساء به الظن).
وورد في الأثر: (اذكروا الفاسق بما فيه يحذره الناس).
- سوء الظن عصمة:
وإذا كان الاسلام أوجب حسن الظن بالانسان ـ ما لم يصدر عنه ما يوجب سوء الظن به من قول أو فعل، فإن على الانسان أن يكون حذراً إذا عرضت له معاملة مع أحد من الناس، فيقدم سوء الظن حتى تستبين له الحقائق؛ كي لا يقع في شرك الدجالين المخادعين، الذين لم يظهر ما في طواياهم. فالمؤمن كيّسٌ فَطِن.
فمثلاً، إذا أراد الانسان أن يتزوج زوجة من أسرة مستورة الحال، ولم يبدُ منها ما يدل على ريبة، فإن عليه ألا يتعجل بعقد قرانها، وعليه أن يقدم الحذر حتى يتبين له كرم هذه الأسرة، وشرف محتدها، وصلاحية المرأة لمشاركته الحياة، وحسن قيامها بحق الزوج؛ لأنه إذا اندفع في هذه الحال وأخذ بالظاهر دون أن يحتاط ويتحرى، ويقدم الحذر وسوء الظن، فربما ظهر له بعد العقد عليها ما يعرضه لمشكلات لا قبل له بها.
وكذلك إذا أراد الحاكم أن يعين موظفاً، أو أراد الناخب أن يختار مرشحاً يمثله ويعبر عنه، فإنه يجب عليه أن يتخير الكفء الأمين الذي ظهرت عدالته وحسن سيرته.
وكذلك إذا أراد مشاركة آخر في تجارة ونحوها، فعليه ألا يتعجل ويأخذ بالظاهر حتى يتبين له مدى أمانة شريكه، كي لا يعرض ماله للضياع والتلف. وفي هذا يقول الرسول (ص): (احترسوا من الناس بسوء الظن).
- وجوب التأويل ما دام ممكناً:
وإذا رأى الانسان من أخيه ما يستكره فعليه أن يتأوله ـ ما وجد له في الخير مذهباً ـ .
أي طلبوا التأويل فظنوا الخير؛ إذ لولا التأويل ما كان هذا الظن الحسن. وإذا لم يجد باباً من التأويل ولا ما يدفع سوء الظن فليبادر إلى مواجهة المظنون به، وليفاتحه بما ينسب إليه، فإما أن يعترف ويستمرئ ما هو عليه، وبذلك يسلم من إثم الظن، لأن الظن لا يتحول إلى يقين فيكون ما ظنه حقاً فلا تكون التهمة خالية من الدليل؛ وإما أن يحدث توبة ويستأنف حياة نظيفة فيكون ذلك من أعظم الخير الذي أسداه إليه؛ وإما أن تظهر براءته، ويكون الظن قائماً على غير أساس.
وإذا أنك ما نسب إليه فليس لأحد أن يكذبه ما لم يقم دليل على كذبه، لأن المؤمن إذا قال صدق، وإذا قيل له صدّق؛ كما روي في الأثر.
- لا مؤاخذة بحديث النفس:
ومهما عرض للانسان من شكوك في الناس من ريب بالنسبة لبعض الأفراد فانه لا يدخل في دائرة التحذير من سوء الظن ما لم تستقر هذه الشكوك في النفس، وتقوى وتشتد حتى تصل إلى حد الجزم والاعتقاد. لأن ما يعرض للنفس دون استقرار لا يقدر الانسان على دفعه ولا يكلف به ولا يؤاخذ عليه