لقبوها «سارة برنار الشرق» ومرت خمسون عاما على رحيلها
صورة لفاطمة اليوسف (روز اليوسف)
صورة العدد الأول من مجلة «روز اليوسف» (الصور لـ «الشرق الأوسط»)
«هادئة رقيقة تذوب خجلا، ويحمر وجهها كلما سمعت كلمة ثناء. عالمها الخاص في العزلة، حيث تنصت لذاتها وتتأملها بلا قيود أو أقنعة، لكنها مع ذلك تصبح أعنف من العاصفة ويزلزل صوتها الناعم مكاتب المحررين وعنابر المطبعة من حولها إذا طرأ طارئ في العمل أو تعرض دولابه لبعض العثرات، فهي قوية إلى حد القسوة، وجريئة إلى حد التهور»..إنها روز اليوسف التي جمعت بين رباطة الجأش والصلابة والحنان والرقة والعذوبة، وكما يصفها ابنها إحسان عبد القدوس بقوله: «لا أدري كيف استطاعت أن تحملني تسعة أشهر وهي واقفة على خشبة المسرح، تعتصر الفن من دمها وأعصابها لتكون يومها أعظم ممثلة في الشرق.. هي التي دخلت مجال الصحافة وفي يديها خمسة جنيهات وأنشأت مجلة تحمل اسما أجنبيا، فاستطاعت أن تجعل من هذا الاسم علما يضم تحته كل الكتاب وأنضج الآراء». لم تحمل روز اليوسف شهادة مدرسية ولا مؤهلاً علمياً، وأخرجت جيلاً كاملا من الكتاب السياسيين والصحافيين، وصنعت من اسمها حروفاً من ذهب في عالم الفن والصحافة والسياسة. كل ذلك في زمن كانت فيه المرأة تلعب دوراً هامشياً في الحياة. كانت ترى أن «وجود ساسة قذرين لا يشين السياسة، فالسياسة في نظرها خدمة الوطن والمجتمع، وهي صراع حول حريات الناس وحقوقهم.. أما الصحافة فهي سلاح السياسة الأول»
. ولدت روز اليوسف عام 1898 لأسرة لبنانية من مدينة طرابلس اسمها الحقيقي فاطمة اليوسف، كانت روزا جميلة الملامح، خافتة الصوت، عاشت طفولة قاسية، مما أعطاها صلابة وقوة للصمود أمام أمواج الحياة العاتية.. فقد فارقت والدتها الحياة عقب إنجابها، فأودعها أبوها محمد محيي الدين اليوسف لدى أسرة مسيحية حتى ترتب لها أمرها من تربية وتعليم في مقابل أجر كريم كان يدفعه لهذه الأسرة، وفي الوقت ذاته ترك مربيتها «خديجة» معها. ولما توفي والدها، تغيرت معاملة الأسرة لفاطمة وتغير اسمها من فاطمة إلى روز لكي يتوافق مع دين الأسرة. وذات يوم قرر أحد أصدقاء الأسرة أن يهاجر إلى البرازيل ورغب في اصطحاب الطفلة «روز» ـ كما كانوا ينادونها ـ حينئذ أسرت إليها مربيتها بأن اسمها «فاطمة» وليس «روز» وأن والدتها «جميلة» توفيت عقب ولادتها، وأن والدها قد سافر إلى استانبول والأرجح أنه توفي هناك. لم تشعر روزا بالحزن لفراق أحد إلا مربيتها. رست سفينة روزا على سواحل الإسكندرية للتزود بالوقود، وليتغير مسار حياتها، حيث التقت إسكندر فرج صاحب فرقة «الجوق المصري العربي» المسرحية وبهرته بجمالها فأخذها لتعيش معه بمصر حتى فارقت الحياة عام 1958م، لتشهد مصر ميلاد موهبة فنية وصحافية فريدة، ومناضلة تحدت القيود التي طوقت المرأة العربية في تلك الفترة فأجبرت الجميع على احترامها وإفساح الطريق أمام إبداعاتها.
وهبت روزا نفسها للفن وتوسعت في علاقاتها بأصحاب تياترو شارع عبد العزيز، وأصبحت تتردد على المسارح إلى أن قابلت عزيز عيد، الذي كان بمثابة الأب الحنون، وأعطاها دور «الجدة» في رواية «عواطف البنين»، وهنا تفجرت موهبة الفتاة ذات الستة عشر ربيعاً، واستمرت رعاية عيد لها، تنقلت بعد ذلك روز اليوسف بين الفرق الفنية والتحقت بعد ذلك بفرقة جورج أبيض ثم فرقة عبد الرحمن رشدي وهنا التقت الفنان محمد عبد الوهاب. سطع نجم روز اليوسف في فرقة يوسف وهبي وعزيز عيد «مسرح رمسيس» وكانت بطلة المسرحيات، ونجحت نجاحا رائعا وبلغت ذروة المجد، عندما مثلت دور مارغريت جوتييه في رواية غادة الكاميليا، وأُطلق عليها النقاد والجمهور الاسم الخالد «سارة برنار الشرق» لبلوغها المجد الذي وصلت إليه سارة برنار ممثلة فرنسا الأولى آنذاك . اختلفت مع يوسف وهبي عندما قرر النزول إلى مستوى الجمهور وتقديم روايات باللغة العامية، بل باللغة السوقية. أما الخلاف الذي أدى إلى ترك روز اليوسف للفرقة فكان بسبب رواية «الذبائح»، وكانت الرواية تحمل الكثير من الفجائع والتشنجات الكثيرة، الأمر الذي لا يخدم الفن نفسه، بالإضافة إلى أن الرواية كانت تحوي بطولتين نسائيتين، واحدة أجنبية والأخرى مصرية، فأراد يوسف وهبي إسناد دور الأجنبية إلى روز اليوسف، لكنها كانت تريد بالطبع أداء دور المرأة المصرية. وتمسك كل طرف بوجهة نظره، الأمر الذي أدى إلى ترك فاطمة اليوسف للفرقة، وكانت دائمًا تقول «إن الفنان يجب أن يترك المسرح قبل أن يتركه المسرح... وأن من يبني مجده درجة يجب ألا يفرط فيه، ولا يترك نفسه يهبط السلم الذي صعده».
بعدها انتقلت روز اليوسف إلى فرقة نجيب الريحاني الذي قرر أن يمثل الروايات التراجيدية، الأمر الذي حال بين روز اليوسف وبين أداء أدوارها على النحو المأثور عنها، لذلك أبت أن تستمر وخرجت من الفرقة، ثم خرجت بعدها من مجال الفن بلا رجعة.. وظلت في حالة عزلة حتى جاءتها فكرة الصحافة بالصدفة البحتة.
تروي روز اليوسف في ذكرياتها قصة دخولها مجال الصحافة قائلة: «نبتت فكرة المجلة في محل حلواني اسمه «كساب» كان يوجد في المكان الذي تشغله سينما ديانا، وكنت جالسة ساعة العصر (في أحد أيام شهر أغسطس/آب 1925) مع الأصدقاء محمود عزمي وأحمد حسن وإبراهيم خليل، نتحدث عن الفن.. وتطرق الحديث إلى حاجتنا الشديدة إلى صحافة فنية محترمة ونقد فني سليم يساهم في النهوض بالحياة الفنية ويقف في وجه موجة المجلات التي تعيش على حساب الفن كالنباتات الطفيلية.. ولمع في رأسي خاطر وقفت عنده برهة قصيرة، ثم قلت للزملاء بعد هذه البرهة من الصمت: لماذا لا أصدر مجلة فنية؟». بدت الفكرة أكثر حماسا عندما بدأت روز اليوسف الاتصال بأول المحررين الذين سيشتركون معها في إدارة المجلة، ولم يكن سوى محمد التابعي أقرب الأصدقاء إليها، وأبو الصحافة المصرية الحديثة.
خرج العدد الأول من «روز اليوسف» إلى النور في يوم الاثنين 26 أكتوبر (تشرين الأول) سنة 1925، وبصدوره أصبحت «روز اليوسف» كما تقول: «حقيقة واقعة.. وكائنا حيا أحرص عليه.. وأقسم على أن يعيش وينمو بأي ثمن».
كانت مجلة أسبوعية فنية أدبية مصورة، في ورق أسمر ساتانيه، ومعظم أخبارها ومقالاتها وزعت في صفحاتها الست عشرة عن المسرح والتمثيل إلى جانب قصة قصيرة مترجمة، بالإضافة إلى مواد أخرى مترجمة عن قصص تاريخية أوروبية أو مقتطفات من الصحف، ومقالات مصرية في النقد الفني. وقد حملت على غلافها صورة فنية رائعة.
حمل العدد الأول في صدره افتتاحية كتبتها السيدة فاطمة اليوسف صاحبة المجلة، أوضحت فيها خطة الصحيفة ومنهجها الذي رسمته لها، في مقال طويل عن الحرية والفن والمسرح، ورسمت في تلك الافتتاحية غاية المجلة بأنها تسعى جاهدة ثائرة للحق والوطن والعدل والواجب.
كانت السنة الثالثة من حياة روز اليوسف مرحلة انتقالية في تحولها من صحيفة فنية إلى صحيفة سياسية. كما وسعت صفحاتها كل جديد وطريف، وشهدت أقلاما جديدة ملهمة، وأخذت في التطور إضافة الملاحق واستحداث أبواب جديدة. كانت روز اليوسف أول مجلة أسبوعية شعبية يتولى أمرها كتاب وطنيون من أبناء مصر، في وقت كان الشائع فيه أن تكون العناصر الشامية الوافدة هي العناصر القائدة في الصحافة المصرية، وإلى جانب مجلة روز اليوسف أصدرت مؤسسة روز اليوسف، العديد من الإصدارات الصحفية، منها صحف صدرت خلال فترات مصادرة روزاليوسف مثل الرقيب، صدي الحق، الشرق الأدنى، مصر الحرة، الصرخة. ومنها إصدارات مستقلة بذاتها مثل روز اليوسف اليومية، مجلة صباح الخير، الكتاب الذهبي (كتاب روز اليوسف).
تحملت فاطمة اليوسف السجن والاعتقال في سبيل إعلاء كلمة الحق والصمود في وجه الفساد والظلم. وقامت بإصدار جريدة روز اليوسف اليومية، كي تبرهن أن روز اليوسف راسخة لا تضعف. ولما طلبت استكتاب عباس محمود العقاد رفض أن يعمل معها لأنها امرأة، حتى ابنها إحسان كان دائماً يعتقد أن المرأة للبيت وكان يحاول أن يزيح عنها أعباء العمل، لكنها كانت ترد على ذلك بثقة تغلفها الطرافة «كما قال مصطفي كامل: لو لم أكن سيدة لوددت أن أكون سيدة!». وقد كانت صحيفة روز اليوسف اليومية من أوائل الصحف التي برزت في ذلك الوقت في مجال التجديد الصحافي وخاصة في تبويبها، فقد أخذت عن (باري سوار) و(ديلي هرالد) تقليد نشر الأخبار الهامة والصور الفوتوغرافية عن الحوادث البارزة في الصفحة الأولى، وأخذت عن الصحافة الفرنسية نشر الأخبار في الصفحة الثانية مباشرة بدل جعل صفحتى الوسط في نشر الأخبار الداخلية. قامت مؤسسة روز اليوسف العملاقة على أكتاف ثلاثة شخصيات: السيدة فاطمة اليوسف، والصحافي الكبير الأستاذ محمد التابعي مؤسس مدرسة روز اليوسف الصحفية، والأديب الكبير إحسان عبد القدوس واضع الثوابت الرئيسية لاستمرار وتطور صرح روز اليوسف. فقد كان لهؤلاء الثلاثة دور بارز في نمو وتطور روز اليوسف حتى صارت مؤسسة صحافية عملاقة، وبعد قرار تأميم الصحف الكبرى في عام 1960، صدر قرار بتأميم دار روز اليوسف وتحويلها إلى مؤسسة قومية.
تزوجت فاطمة اليوسف ثلاث مرات، الأولى من المهندس محمد عبد القدوس عام
وكان قد ترك وقتها العمل الحكومي واتجه إلى الفن ثم طلقها بعد عامين، وكانت فاطمة اليوسف حاملاً في ابنهما «إحسان»، ثم تزوجت من المخرج زكي طليمات، حيث رُزقا بابنتهما «آمال»، ولها من الأحفاد خمسة: محمد إحسان محمد عبد القدوس، زكي الجندي، أحمد عبد القدوس، فاطمة أحمد يوسف الجندي، زين أحمد يوسف الجندي، يوسف أحمد يوسف الجندي
تزوجت فاطمة اليوسف بعد ذلك من قاسم أمين وهو حفيد قاسم أمين صاحب كتاب «المرأة الجديدة». تكشف مذكراتها عن قلب صلد لم تنهكه المعارك السياسية فهي تقول في خاتمة مذكراتها «ان العمل السياسي لذيذ، ونبيل.. لذيذ لأنه حافل بالتقلبات والتطورات بل والدراسات.. فأنت فيه تدرس الأشخاص والأشياء والموضوعات.. تدرس الأفراد والمجموعات.. تدرسهم نفسياً وفكرياً واجتماعياً، لتستطيع ان تسوسهم وأن تتأثر بهم وأن تؤثر فيهم».
كانت أمنياتها بسيطة هي أن تموت حين يحين الأجل في لحظة خاطفة.. وأن يكون الموت في بيتها وعلى فراشها، دون تدركها علة.. حتى لا يقعدها ذلك عن الحركة والعمل وحقق الله لها أملها ولفظت أنفاسها الأخيرة بعد منتصف ليل 10 أبريل (نيسان) عام 1958.