بسم الله الرحمن الرحيم
أقدم لكم اليوم قصيدة من أروع القصائد التي يمكن أن تقرأها عبر تاريخ الشعر العربي ، إنها قصيدة " رسالة في ليلة التنفيذ "التي يصور فيها شاعرنا الفذ الذي قتل وهو لم يتعد الخامة والعشرين من عمره .. يصور مشاعر سجين صدر عليه الحكم بالإعدام فكتب رسالة لأبيه في ليلة تنفيذ الحكم الجائر متحدثا عن وطنه وحياته ومبدأه ... إن القصيدة بحق تميزت بتفاصيل إنسانية مدهشة وعاطفة جياشة وألفاظ معبرة ... إنها قصيدة توفرت فيها كل عوامل جمال وتميز التجربة الشعرية ...... والأن مع القصيدة
رسالة في لية التنفيذ
أبتاه ماذا قد يخط بنانى *** والحبل و الجلاد ينتظران
هذا الكتاب إليك من زنزانة *** مقرورة صخرية الجدران
لم تبق إلا ليلة احيا بها *** وأحس أن ظلامها أكفانى
ستمر يا أبتاه لست اشك فى *** هذا وتحمل بعدها جثمانى
الليل من حولى هدوء قاتل *** والذكريات تمور فى وجدانى
ويهدنى ألمى فأنشد راحتى *** فى بضع آيات من القرآن
والنفس بين جوانحى شفافة *** دب الخشوع بها فهز كيانى
قد عشت أومن بالإلـه ولم اذق *** إلا أخيرا لذة الإيمان
شكرا لهم أنا لا اريد طعامهم *** فليرفعوه فلست بالجوعان
هذا الطعام المر ما صنعته لى *** أمى ولا وضعوه فوق خوان
كلا ولم يشهده يا أبتى معى *** أخوان لى جاءاه يستبقان
مدوا إلى به يدا مصبوغة *** بدمى وهذه غاية الإحسان
والصمت يقطعه رنين سلاسل *** عبثت بهن أصابع السجان
ما بين آونة تمر وأختها *** يرنو إلى بمقلتى شيطان
من كوّةٍ بالباب يرقب صيده *** ويعود فى أمن إلى الدوران
انا لا أحس بأى حقد نحوه *** ماذا جني فتمسه أضغانى
هو طيب الاخلاق مثلك يا أبى *** لم يبد فى ظمأ إلى العدوان
لكنه إن نام عنى لحظة *** ذاق العيال مــرارة الحرمان
فلربما وهو المروع سحنةً *** لو كان مثلى شاعرا لرثانى
أو عاد من يدرى الى أولاده *** يوما وذُكّرَ صورتى لبكانى
وعلى الجدار الصلب نافذة بها *** معنى الحياة غليظة القضبان
قد طالما شارفتها متأملاً *** فى السائرين على الأسى اليقظان
فأرى وجوما كالضباب مصورا *** ما فى قلوب الناس من غليان
نفس الشعور لدى الجميع وإن همو *** كتموا وكان الموت فى إعلانى
ويدور همس فى الجوانح ما الذى ***بالثورة الحمقاء قد أغراني
أو لم يكن خيرا لنفسى أن أرى *** مثل الجميع أسير فى إذعان
ما ضرنى لو قد سكت وكلما *** غلب الأسى بالغت فى الكتمان
هذا دمى سيسيل يجري مطفئا *** ما ثار فى جنْبَىَّّ من نيران
وفؤادى الموّار فى نبضاته *** سيكف في غده عن الخفقان
والظلم باقٍ لن يحطم قيده *** موتى ولن يودى به قرباني
ويسير ركب البغى ليس يضيره *** شاة اذا اجتثت من القطعان
هذا حديث النفس حين تشف عن *** بشريتى وتمور بعد ثوان
وتقول لى إن الحياة لغايةٌ *** أسمى من التصفيق للطغيان
أنفاسك الحرى وان هى أُخمدت *** ستظل تغمر افقهم بدخان
وقروح جسمك تحت سياطهم *** قسمات صبح يتقيه الجاني
دمع السجين هناك فى أغلاله *** ودم الشهيد هنا سيلتقيان
حتى اذا ما أفعمت بهما الربا *** لم يبق غير تمرد الفيضان
ومن العواصف ما يكون هبوبها *** بعد الهدوء وراحة الربان
إن احتدام النار في وجه الثري *** أمر يثير حفيظة البركان
وتتابع القطرات ينزل بعده *** سيل يليه تدفق الطوفان
فيموج يقتلع الطغاة مزمجرا *** اقوى من الجبروت والسلطان
أنا لست أدرى هل ستذكر قصتى *** أم سوف يعروها دجي النسيان
أو أننى سأكون فى تاريخنا *** متآمرا أم هادم الاوثان
كل الذى أدريه أن تجرعى *** كأس المذلة ليس فى إمكانى
لو لم أكن فى ثورتى متطلباً *** غير الضياء لأمتى لكفانى
اهوى الحياة كريمةً لا قيد *** لا إرهاب لا إستخفاف بالإنسان
فاذا سقطُت سقطُت أحمل عزتى *** يغلى دم الاحرار فى شريانى
أبتاه إن طلع الصباح على الدنا *** وأضاء نور الشمس كل مكان
واستقبل العصفور بين غصونه *** يوما جديدا مشرق الألوان
وسمعت أنغام التفاؤل ثرةً *** تجرى على فم بائع الالبان
وأتى يدق- كما تعود- بابنا *** سيدق باب السجن جلادان
واكون بعد هنيهة متأرجحا *** فى الحبل مشدودا الى العيدان
ليكن عزاؤك ان هذا الحبل ما *** صنعته فى هذى الربوع يدان
نسجوه فى بلد يشع حضارةً *** وتضاء منه مشاعل العرفان
أو هكذا زعموا وجىء به إلى *** بلدى الجريح على يد الاعوان
أنا لا اريدك ان تعيش محطما *** فى زحمة الألام والاشجان
إن ابنك المصفود فى أغلاله *** قد سيق نحو الموت غير مدان
فاذكر حكايات بأيام الصبا *** قد قلتها لى عن هوى الأوطان
وإذا سمعت نشيج امى فى الدجى *** تبكى شبابا ضاع فى الريعان
وتكتم الحسرات فى أعماقها *** ألماً تواريه عن الجيران
فاطلب إليها الصفح عنى اننى *** لا ابتغى منها سوى الغفران
مازال فى سمعى رنين حديثها *** ومقالها فى رحمة وحنان
ابنى إنى قد غدوت عليلة *** لم يبق لى جلد على الأحزان
فأذق فؤادى فرحة بالبحث عن *** بنت الحلال ودعك من عصيان
كانت لها أمنية ريّانة *** يا حسن أمال لها وأمان
غزلت خيوط السعد مخضلا *** ولم يكن إنتفاض الغزل فى الحسبان
والان لا ادرى بأى جوانحٍ *** ستبيت بعدى أم بأى جنان
هذا الذى سطرته لك يا أبى *** بعض الذى يجرى بفكر عان
لكن إذا إنتصر الضياء ومُزقت *** بيد الجموع شريعة القرصان
فلسوف يذكرنى ويُكبر همتى *** من كان فى بلدى حليف هوان
والى لقاء تحت ظل عدالةٍ *** قدسية الأحكام والميزان