ن الإنسان مدعو إلى أن يحقق التوازن بين طبيعة المادة فيه وبين طبيعة الروح، فلكل منهما تربيته وغذاؤه الذي يصلح له ويصلح به، وإذا أخل بالتوازن بينهما اختل توازنه بما طغى بعض منه على بعضه الآخر. وقد حذرنا المنهج من أضرار ذلك الاختلال وأخطاره وكيف يصل في أقصى درجاته انحرافاً- إذا كان جنوحاً إلى الطين وانغماساً في شهوات الطعام والشراب والاستمتاع- إلى طمس مراكز استقبال الحق، حتى لا يعود يختلف عن الحيوان {والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام}. كذلك يحذرنا المنهج من فعل أولئك الذين يحرمون على أنفسهم ما أحل الله لهم من الطيبات فيبخسون الجسد حقوقه عنتاً وحرماناً، ظناً منهم أن التبتل والتفرغ للعبادة، وقمع احتياجات النفس ورغباتها، والانقطاع عن الدنيا تسامياً بالروح في ظنهم هو خير لهم وأبقى، بينما يبين الله في كتابه الكريم- وكذلك في سنة نبيه صلى الله عليه وسلم -معالم الاعتدال والتعامل في توازن مع طيبات الحياة {يابني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفينü قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة}. وينبهنا المنهج في الوقت نفسه إلى خطأ تعطيل سنن الله في خلقه ومصادرة دور الإنسان في الخلافة عن الله الذي استخلفه في الأرض ليعمرها لا ليهجرها{اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها}، ثم يقرر الإسلام لهذا الإنسان أصول الحرية التي سيحمل أمانتها بمقوماتها وحقوقها وواجباتها، والتي لا تستقيم الحياة ولا تصلح إلا في سيادتها، فيقرر له ابتداء حق الكرامة في أصل الخلقة بمقتضى كونه ابناً لآدم، {ولقد كرمنا بني آدم}، وقرر العبودية لله وحده، فأبطل استعباد الإنسان لأخيه الإنسان {أنا ربكم فاعبدون}، وقرر المساواة فأبطل قداسة الفرد أو الطبقة أو الشعب، فلا سليل للإله ولا دماء زرقاء ولا شعب مختار ولا تدنيس للأعراق- بدعوى التطهير العرقي-: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم} تأكيد لوحدة الأصل والمساواة التامة بين جميع البشر. لذا كانت حكمة تشريع الصوم وفرضه على كل الناس من أجل أن يشعر الإنسان بحرمان أخيه الإنسان ليعاونه ويشاركه في التزام منهج المساواة. الصيام سلوك ومساواة وتربية لقد عرف الصيام باعتباره مدرسة روحية لتهذيب النفوس، وفترة زمنية لراحة الأبدان، وركناً عظيماً من أركان الإسلام، كما عرف الصوم قديماً في الأمم السابقة التي كانت تمارسه على أنه عمل من الأعمال الحسنة، فمارسه الفرس والروم والهنود واليونانيون والبابليون القدماء، ولم تعط الكنيسة الكاثوليكية أية تعليمات أو قواعد للصوم، ولكنها كانت ترى أن الصوم التام- وهو الامتناع عن جميع الأطعمة- أو الجزئي- وهو الامتناع عن بعضها فترة من الزمن- فيه تكفير عن بعض الذنوب وضرب من ضروب التوبة، أما الكنيسة الرومانية فقد كانت تنصح بالصوم خلال فترة من الزمن مع تناول وجبة غذائية واحدة خلال اليوم، ولم تحدد لها ساعة معينة، وعموماً لقد كان الامتناع عن الطعام معروفاً منذ القدم لأغراض شتى، فقد كان يتم إما التماساً من المصائب التي قد تنزل بالإنسان، وإما شكراً لله على دفع البلاء- كما كان يفعل العبرانيون القدماء-. وكان الفلاسفة واليونانيون القدامى يصومون تهذيباً للنفس لتحمل المشاق، وهكذا تعددت أغراض الامتناع عن الطعام منذ القدم. ثم خرج العلماء في عصر النهضة ومن قبلهم الأطباء المسلمون بفوائد صحية كثيرة من جراء الامتناع عن الأكل فترة من الزمن، وأصبح الصوم علاجاً للمرضى منذ القرن الماضي كما هو الحال في بعض المصحات الطبية في أمريكا وروسيا وأوروبا الآن. أما الصيام في الإسلام فقد أوجبه الله على المسلمين وأنزل على رسوله قوله سبحانه {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون}، ورغب صلى الله عليه وسلم في الصيام في أكثر من حديث شريف مبيناً أجره عند الله تعالى وما يؤدي إليه من تهذيب النفس، ووقاية للبدن وتكافل بين المسلمين، إلى غير ذلك من الحكم الكثيرة.. فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«الصيام جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يجهل، فإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل: إني صائم، إني صائم». وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لا تساب وأنت صائم، وإن كنت قائماً فاجلس فوالذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك). إن حقيقة الصيام في الإسلام هي الإمساك عن الطعام والشراب والجماع وسائر المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس تقرباً لله عز وجل. ولقد شرع الله الصيام في الإسلام كما شرعت سائر الأحكام الإلهية الأخرى؛ لتحقيق مصالح لازمة أو درء مفسدة أو مفاسد متحققة عن المكلفين سواء كانت تلك المصالح المتحققة روحية أو نفسية أو بدنية مادية للحفاظ على الكليات الخمس المراد حفظها في الشريعة. كل ذلك مقرون بالتعبد لله والتقرب إليه لأنه قبل كل ذلك ركن من أركان الدين وأمر إلهي كريم. ولهذا فإن الناظر في تفسيرات العلماء لآيات الصوم يجد إشارات علمية رائعة لأسرار وحكم الصوم، ففي قوله تعالى {لعلكم تتقون} معان عدة ذكرها العلماء أهمها يدور حول اكتساب صفة التقوى التي تحكم وتحمي الإنسان من الوقوع فيما يغضب الله تعالى، وأن الصيام يحدث وقاية للإنسان من علل وأمراض وأخطار يمكن أن تصيبه في نفسه أو بدنه، كذلك الناظر في شراح الحديث النبوي يجد في شروحاتهم على تلك الأحاديث النبوية المتعلقة بالصيام إشارات علمية تنم عن سعة فهم وإدراك. إن هناك اختلافاً جوهرياً بين الصيام كما عرفناه وبين التجويع، فليس الصيام الهدف الأول أو الوحيد منه هو التجويع بالمعنى الشائع؛ فالتجويع الذي عرفه العلماء خصوصاً علماء التغذية بأنه «الامتناع الكلي أو الجزئي عن تناول المأكولات والمشروبات معاً، أو عن تناول المأكولات فقط لفترة من الزمن طالت أم قصرت» والمدرسة الغربية لا تفرق بين هذا التجويع الذي أصبح له مدرسة طبية وأقيمت من أجله مصحات عالمية كثيرة في شتى أنحاء العالم يعالجون به عدداً من الأمراض المزمنة، وبين الصيام الإسلامي. الحقيقة أن بينهما فروقاً عديدة بل وجوهرية كثيرة، ولقد دخل مصطلح التجويع عن طريق مراحله الثلاث إلى المدرسة الطبية الحديثة لأغراض علاجية شتى. بين الصيامين! إن المراحل الثلاث يمكن إيجازها فيما يلي: - المرحلة الأولى: التجويع المبكر، وهو مرحلة ما بعد امتصاص الغذاء مباشرة. - المرحلة الثانية: التجويع قصير الأجل، وتتراوح مدته من يوم إلى سبعة أيام، والتغيرات الاستقلابية التي تحدث خلال هذه الفترة عبارة عن استمرار وتسريع للعمليات التي بدأت في فترة ما بعد الامتصاص. ويتصف الاستقلاب الحاصل في هذه المرحلة بارتفاع معدلات استقلاب البروتين وتصنيع الجلوكوز الجديد بكميات كبيرة، وتكوين الأجسام الكيتونية لتأمين حاجة الجسم من الطاقة. - المرحلة الثالثة: التجويع طويل الأجل، وتتراوح مدته من أسبوعين إلى ستة أسابيع ينخفض خلالها معدل تحليل البروتين وإفراز النيتروجين، ويزداد تحلل الدهون وينخفض إنتاج جلوكوز الكبد من حوالي 200 جم يومياً خلال فترة ما بعد الامتصاص إلى حوالي 50 جم في اليوم خلال هذه المرحلة، ومع ازدياد معدل انحلال الدهن تزداد الأحماض الدهنية التي تصل إلى الكبد فيرتفع معدل إنتاج الأجسام الكيتونية التي تزداد تدريجياً في الدم وتصل إلى مستوى ثابت، يحصل عنده الدماغ على الطاقة لتحل محل الجلوكوز كمصدر رئيس للطاقة. لقد ثبت علمياً أن لهذا التجويع آثاراً مفيدة تطرأ على الوظائف الأساسية للجسم مع وجود آثار أخرى ضارة. وقد ذكرت بعض هذه الفوائد في كتاب التداوي بالصوم لصاحبه (هـ.م شليتون) نذكر منها: إتاحة الراحة لجميع أنحاء الجسم، وطرح السموم والفضلات خارج الجسم، وتجدد خلايا الأنسجة، وعلاج بعض الأمراض الحادة مثل البول السكري وارتفاع ضغط الدم، وتحسن أعضاء الحس والشعور، وازدياد قوة الإبصار، وكذا تحسن القوى العضلية والفكرية. وكما هو واضح فإن هناك أوجه اتفاق واختلاف بين الصوم في الإسلام والتجويع أو الصوم الطبي، ويدخل ضمن أوجه الاتفاق كل الفوائد الثابتة علمياً للصيام الطبي، إذ إنها تتحقق بالصيام حسب التشريع الإسلامي. ويمكن حصر أوجه الاتفاق والاختلاف بين الصيامين فيما يلي: - يتفق الاثنان في تحقيق هدف مشترك وهو إراحة الجسم من هضم الغذاء وإتاحة الفرصة كاملة لاستهلاك المدخر منه، وطرح السموم المتراكمة فيه. - يتم في الاثنين الامتناع عن تناول الطعام والشراب لفترة زمنية محدودة. - يختلفان في أن الصيام في الإسلام فترة زمنية محددة بنهار اليوم، ومتتابعة لمدة شهر، ودورية كل سنة على وجه الإلزام للمسلم، وبعدة أيام متفرقة في بقية العام على وجه الاختيار وهو ما نعرفه بصيام التطوع. أما الصيام الطبي فهو امتناع عن الغذاء فترة زمنية متصلة تحدد لكل إنسان حسب ظروفه أو مرضه على سبيل الاختيار. - الصيام في الإسلام يقدر عليه كل المكلفين الأصحاء، في شتى الأقطار والأزمان وهو سهل ميسور، وليس فيه أية أخطار على الجسم. أما الصوم الطبي فلا يستطيعه الناس جميعاً. وهو قهر شديد للنفس، ويمثل مشقة وعنتاً للجسم، ولا يقبل عليه إلا من اشتد به المرض فيصوم محاطاً بكل الأطباء والممرضين وأجهزة الإسعاف والطوارئ. - للتجويع أخطار لا توجد في الصيام الإسلامي مثل حرمان الجسم من إمدادات الأحماض الدهنية الأساسية التي لا توجد إلا في الغذاء، والصيام الإسلامي يمد الجسم بهذه الأحماض في وجبتي السحور والإفطار. - للصيام الإسلامي مميزات كثيرة لا توجد في التجويع منها: - توازن دورتي البناء والهدم في أثناء فترة الصيام. - وجود كمية مخزونة من البروتين في خلايا الكبد. - زيادة إنتاج اليوريا من الأمونيا المتكونة من الأحماض الأمينية. -تخلص الجسم من الدهون بطريقة طبيعية آمنة. - تنشيط عمليات الكبد الحيوية. - تأكسد الأحماض الدهنية ببطء، وعدم تجمع الأجسام الكيتونية في الدم، بينما تحدث حموضة خطرة في الدم في حالة التجويع. هذا وقد حققت التجارب والأبحاث الطبية المعتمدة حول فوائد الصيام في الإسلام نتائج إيجابية باهرة، وقد قام عدد الباحثين المتخصصين باستخلاص هذه الثروة الهائلة من النتائج التي منها ما قام بها كل من د. رياض البيبي ود. القاضي في الولايات المتحدة الأمريكية من تجارب مخبرية على متطوعين خلال صيام شهر رمضان، حيث أجريت لهم تحليلات للدم قبل بداية الصوم وفي أثناء الشهر وبعد انتهاء الصيام. وقد كانت النتائج النهائية مبهرة إذ أكدت الأثر الإيجابي الواضح للصيام على جهاز المناعة في الجسم وتحسن المؤشر الوظيفي للخلايا الليمفاوية بمقدار عشرة أضعاف. كما أجرى د. حسن نصرت ود. منصور سليمان بجامعة الملك عبد العزيز السعودية تجارب طبية حول تأثير الصيام على هرمونات المرأة من خلال قياس مستوى هرمون البرجستيرون وهرمون البرولاكتين في مصل الدم لنساء صحيحات تتراوح أعمارهن بين 22 و25 عاماً؛ لمعرفة تأثير الصيام على فسيولوجيا الخصوصبة عند المرأة، نتيجة الزيادة الملحوظة في هرمون البرولاكتين الذي حينما ينقص بالصيام، تعود المرأة إلى خصوصبتها الطبيعية. وهناك نتائج إيجابية أخرى لتجارب مماثلة تظهر أهمية الصيام كعلاج لكثير من الأمراض كمرض الجهاز البولي، وتجلط الدم، ومرض السكري، والتهاب المفاصل، وقرحة المعدة، وتأثيره الإيجابي كذلك على مكونات الدم، ووظيفة الغدة الدرقية وخلايا الدم الحمراء، كذلك أيضاً أثره المباشر على وزن الجسم الزائد، وفي تحسن عملية الإخصاب عند الرجال وأثره على بعض أمراض الأوعية الدموية الطرفية، والعديد من النتائج الإيجابية الطبية الأخرى. إن الناظر في أسرار التشريع الإسلامي وحكمه المتعددة يدرك أن ذلك وغيره من لدن عليم حكيم يضع كل شيء بمقتضى الحكمة المطلقة لما يصلح العباد في حالهم ومآلهم، وبما يلائم الروح والجسد على حد سواء، ودراسة الحكمة في التشريعات الإسلامية أمر هام ليزداد الذين آمنوا إيماناً، وفي طياتها مجال لدعوة الآخرين إلى هذه التعاليم السمحة التي تفيد الإنسان في دينه ودنياه، خصوصاً تلك الحكمة العظيمة من وراء تشريع الصيام على الجميع عدا الفئات التي استثناها العلي القدير رحمة بصحتهم، فإن في ذلك مساواة تامة بين جميع البشر كما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «كلكم لآدم وآدم من تراب» ويقول «الناس سواسية كأسنان المشط» وكل ذلك إبطال للتمييز بين الناس بسبب الجنس أو اللون أو العنصر أو الدين، واعتبار تعدد الشعوب للتعارف والتعاون على البر والتقوى من أجل خير البشرية وسلامتها، وليس من أجل الإثم والبغي والعدوان. نشر في مجلة (المعرفة )العدد (54) بتاريخ ( رمضان 1420هـ )