آن الأوان ... أن نعيدها دولة
سعد الأوسي
ربما تكون الدولة (( اصطلاحاً )) مفهوما مختلطاً عند بعض الناس لمظنتهم الشائعة ان الدولة هي الحكومة، بينما هي في الحقيقة اشمل واعم واكثر عناصر، فالدولة كما يقول فقهاء السياسة باختصار جامع مانع هي :
1-تجمع بشري يعيش
2- في اقليم جغرافي محدد
3-بنظام سياسي وسلطة تنظيمية عامة(حكومة)،
4- ولها سيادة واستقلال وسمو.
ولو نظرنا الى دولتنا الجديدة بعد 2003 بموجب هذا التعريف وجدنا ان شكل الحكومات المتعاقبة على ادارتها قد كان هو العنصر الاهم والاكثر تأثيرا في تشكيل هويتها وسماتها ونمطها،بل وسم بصبغته باقي عناصرها الاخرى بشكل جلي،على الرغم من ان دستور البلاد وقوانينها العامة و شكل نظام الحكم ظل هو ذاته في الرئاسات الخمس التي تعاقبت على سدّة السلطة والادارة. الا ان مخرجات ونتائج كل واحدة منها اختلفت اختلافات كبيرة وانعكس ذلك في جميع مفاصل الحياة ومظاهرها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والامنية.
فالدولة التي تفككت في حكومة السفير الامريكي بريمر رئيس سلطة الائتلاف المدنية على وفق خطة تهديم دقيقة، هي غير الدولة التي عانت من طموحات دكتاتورية عشوائية قاسية قليلة الخبرة في اول حكومة وطنية بعد الاحتلال والتي مايزال العراقيون يتذكرون نتائج بعض قراراتها الكارثية في معارك الفلوجة الاولى والثانية على سبيل المثال، وفشلها رغم فاتورة الدم الباهضة التي هدرت على مذبحها في فرض هيبة الدولة وارساء اركانها.
وهي بالتأكيد غير الدولة التي غرقت في ظلام وعتمة وتخبط وعصابية ادارة الحكومة قصيرة الأمد التي تلتها من ايار 2005 الى ايار 2006 ، ونتج عنها حريق الحرب الاهلية الشعواء والقتل على الهوية والاسم بعشرات وربما مئات الاف القتلى المدنيين الابرياء.
وهي قطعاً ليست ذات الدولة في عهد رئيس الوزراء نوري المالكي (2006- 2010) الذي استلمها ركاما هائلا من اخطاء وازمات و حرائق وصراعات اهلية حادة تؤججها التنظيمات الارهابية والتكفيرية، هذا غير تجبّر واستقواء الفصائل المسلحة العديدة في الشارع العراقي وكذلك عصابات الجريمة المنظمة التي تحولت في ذلك الوقت الى كيانات قوية متنمرة لاتحترم ولا تمتثل لاية سلطة او قانون ....كان عليه ان يعيدها دولة بسيادة القانون وهيبة السلطة المُلزِمة بالرغم من ضعف قوتها الامنية والعسكرية، حيث كان عليه ان يعيد تنظيمها وتسليحها و تقوية نفوذها لاستعادة النظام العام وحماية امن ومصالح الشعب والوطن داخليا وخارجيا. يضاف الى هذه التركة الثقيلة ايضاً مهمته الوطنية الاكثر وجوبا وضرورة التي وضعها على رأس اهدافه وهي وجوب اخراج القوات الامريكية المحتلة لاستعادة سيادة الدولة ووجودها وكفّ يد التدخل الاجنبية الثقيلة عنها .لذلك وجب تصنيف فترة المالكي الاولى -وفق هذا المنظور - على انها الاصعب والاهم في تاريخ الدولة العراقية الحديثة، لاجتماع هذه الظروف المعقدة الكثيرة في آنٍ معاً. وهي مختلفة ايضاً في اطاريها العام والخاص عن مثيلتها في ادارته الثانية (2010-2014) والتي كانت مثالا للرفاهية الاقتصادية وبحبوحة العيش على الرغم من المؤامرات الكبيرة التي اكتنفتها - داخليا وخارجياً- بقصد افشالها و توهين جسور الثقة المتينة التي امتدت فيها بين المالكي وجماهيره الكبيرة التي اثبتت ولاءها له في جميع نتائج الدورات الانتخابية منذ 2006 حتى الآن حين بوّأته المركز الاول بين جميع السياسيين بعدد الاصوات التي كان يحققها وبفرق شاسع جدا بينه وبين اقرب منافسيه وهي نتائج لم يحققها سواه واعتقد جازما انها ستبقى كذلك في الانتخابات المرتقبة في 10 تشرين اول 2021 وربما لعدد من الدورات اللاحقة ، بما يوضح بشكل قاطع لا لبس فيه حجم الثقة التي يحظى بها هذا الرجل وحضوره الشعبي المتفرد برغم الماكنات السياسية والاعلامية والمخابراتية التي طالما عملت ضده بتحالفات وتآمرات سرية ومعلنة بغرض تشويه صورته وتدمير سمعته وتكبيل عمله ونشاطه، وعرقلة مسارات المشاريع الواعدة والرؤى الطموح التي يريدها لوطنه. وربما كانت احداث البصرة والفوضى الصاخبة التي تعمدتها بعض التنظيمات المسلحة لتحدي سلطة الحكومة واثبات عجزها في نيسان 2008 خير دليل على قوة وحزم وحنكة السيد نوري المالكي في التعامل مع الازمات الكبيرة، حيث نجح في اخماد نارها وتطويق فوضاها بقوة وحزم في عملية صولة الفرسان التي مايزال العراقيون يتذكرونها و يرونها العلاج الانجع كلما شاع جبروت السلاح والدم و منطق الاستقواء المنفلت في الشارع العراقي.
ولكن ذلك النجاح السياسي والامني الذي سجّل للمالكي بامتياز لم يكن ليمرّ في ظل صراع ارادات الدول الكبرى في العراق وسعيها للتفرد بالهيمنة على قراره الوطني، لذلك كان لابد لهم من مؤامرة على تلك الانتصارات المنجزة، اكبر واوقع تأثيرا لهدم ماتحقق فيها من تمتين ورسوخ ثقة بين الحكومة والشعب فكانت جريمة سبايكر النكراء التي ماتزال كثيرا من خيوط مؤامراتها السوداء خفية مبهمة حتى الان، وهو مجهول مقصود هدفه هزّ صورة المالكي وشعبيته الطاغية بعد ان وضحت اهدافه ووجهته في اعادة الدولة وارساء اركانها وقطع يد الفوضى والتدخل والتلاعب بوجودها ومصيرها.
لذلك لم يكن اجتماع قوى الشر وتعاونها غير المعلن على توريط المالكي ومحاولة تلطيخ يده بجريرة الدماء البريئة التي سفكت في سبايكر، امرا مستغربا بعيدا عن المؤامرة المتوغلة عميقا في هذا الحدث-الجريمة، وقد تكون وصلت الى اقرب الحلقات المحيطة به من اهل الثقة والرفقة الطويلة والنضال المشترك!!!، ثم ليعقبها بعد ذلك مباشرة في توقيت محسوب احتلال الدواعش للموصل الذي ترافق مع انسحاب الجيش والقوات الامنية دون اطلاق رصاصة واحدة، في واحدة من احقر المؤامرات واكثرها خيانة للوطن والشعب والجيش والتي عصفت بمصير كل شئ من اجل تحقيق مطامح وصفقات دنيئة ارادت الاجهاز سياسيا على المالكي وقطع جسور الثقة التي بناها مع شعبه، وزعزعة مكانته الراسخة ودوره كقائد قوي لتحقيق التقدم والنهوض المنشود بعد طول خراب ونكوص.
كانت الموصل وباقي المدن التي احتلها المجرمون الدواعش ثمنا ثقيلاً دفعه بعض شركاء العملية السياسية لضمان عدم حصول المالكي على ولاية ثالثة (2014-2018)، خاصة بعد ان اعلن عن رؤيته الواعدة للمرحلة القادمة من البناء والاعمار بالاتفاق الستراتيجي الذي تفاوض عليه مع الصين وسعى لتحقيقه بتشريع قانوني (قانون البنى التحتية)، وكان المعوّل عليه حل ازمات العراق المستعصية في الكهرباء والماء والسكن وتحقيق الازدهار الصناعي والاقتصادي والعمراني الذي سيضع العراق في مصاف الدول المتقدمة، الا ان (الجميع) وقفوا ضد هذا المشروع العملاق واتفقوا على عدم اقرار قانونه في تآلف غريب مشبوه. و (الجميع) هذه تشمل كل التيارات والاحزاب والسياسيين العراقيين الموجودين في الحراك شلع قلع !!!
اما كلمة (ضد) فهي لاتعني ضد المشروع فحسب بل ضد المالكي اولا لانه بهذه الاتفاقية سيحرمهم قائمة طويلة من العمولات والصفقات والسرقات الكبيرة التي قد تترتب في حال تجزئة خطة هذه الاتفاقية الى مشروعات منفصلة، اضافة الى كونها انتصاراً سياسياً كبيرا ومنجزا عظيما سيحسب لرئيس الوزراء المالكي يعزز من جسور الثقة والشعبية والالتفاف الوطني ، وهو امر ترفضه جميع القوى الفاعلة في العراق الخارجية والداخلية على حد سواء، لانه من غير المسموح لاحد - مهما كان- تغيير المشهد السياسي الحالي والتحول من دولة الفوضى والفساد والتخريب الى دولة التنظيم والقوة والازدهار والقانون.
وقد نجح فريق المتآمرين وكان لهم ما ارادوا حين تحالفوا مع اقرب مقربي المالكي من ورفاق دربه للعمل ضده كما اسلفت، بغرض ابعاده عن ولايته الشرعية التي اكّدها الاقتراع الجماهيري الديمقراطي حين حقق اعلى نسبة اصوات وبفارق هائل عن اقرب منافسيه. حتى وان اضطروا ان يأتوا برجل ضعيف على المستوى الشخصي والحزبي بديلاً عنه، لتبدأ معه فترة مليئة بالجمود والوعود غير المتحققة والادعاءات الشعاراتية العريضة التي لم تكن ترى النور على ارض الواقع، بالرغم من استلام الحكومة اللاحقة ارثا اقتصاديا ممتازا وخططا ومشاريع جاهزة للتنفيذ اضافة الى استعداد وتجهيز عسكري كامل لهزيمة الدواعش وطردهم من المدن والمحافظات العراقية التي يسيطرون عليها.
وبالرغم من التعاون الكامل الذي ابدته جميع الاطراف السياسية لحلّ العقد وازالة المطبات والعوائق امام الحكومة التي تلت حكومة المالكي الا ان ذلك كله لم ينجح في اخفاء حقيقة ان الحكومة الجديدة (الطارئة) كانت مجرد حل عاجل واهن انتهى مفعوله فور ابعاد المالكي عن ولايته الثالثة، الا ان احدا منهم لم يفكر في خضم الصراع ضده ماذا سيكون مستقبل سنواتها الاربع واثرها على البلد في ظل وجود قيادة قليلة الخبرة والقدرة اضافة الى كونها مثقلة بشعور العرفان والولاء للرعاة الذين وضعوها في موقع هي الادنى في استحقاقه!!!.
خبا بريق الدولة و تداعى رفاهها الاقتصادي شيئاً فشيئاً، وطغت تصرفات الشخصية المترددة الواهنة عزماً وحزماً على اغلب قرارات الحكومة وافعالها، بل حتى وفي اوج لحظات النجاحات المفترضة التي لم تصنع رئاسة الحكومة تلك شيئا منها سوى انها ورثت عناصرها ومكوناتها ونتائجها الجاهزة للقطف من رئاسة المالكي، بدت مرتبكةً رهينةً لانصاف الحلول تقدم رجلا وتؤخر اخرى. تجلى ذلك مع الانتصار على داعش الذي سبق ن اعد المالكي له اعدادا دقيقا للقضاء المبرم عليه وانهاء وجوده كاملا وضمان عدم تشكله وانبعاثه من جديد.، الا ان ميل قيادة الحكومة وقتها للتسويات وقصور رؤيتها وترددها في انهاء وجود الدواعش في العراق اتاحت لهم بابا خلفيا يتسللون منه الى ملاذات آمنة جديدة لالتقاط الانفاس ولملمة الجراحات واعادة التشكيل والتنظيم من جديد.
ولان الضعف لايلد الا ضعفا اكبر كان استبدال حكومة ( المؤامرة 2014 ) بحكومة اخرى اضعف واكثر انقيادا وتبعيةً مفتاحا لازمات اكبر ودماء اغزر وخسائر اكثر، وهو ما تمثل في مظاهرات الشباب اليائس الباحث عن عمل ولقمة عيش ووطن يلوذون باكنافه في 25 تشرين ، والتي سرعان ماتحولت الى ثورة عارمة اجتاحت اغلب محافظات العراق وباعداد مليونية. وكان لابد ان تتخبط الحكومة الضعيفة جدا التي ادارت تلك الازمة بكثير من الاخطاء الجسيمة التي تسببت بسفك دماء عزيزة بريئة لا ذنب له سوى انها خرجت في تظاهرات شبابية بصدورٍ وايدٍ عارية تطالب بعمل شريف ولقمة عيش ووطن حر آمن ليس الا. لينتهي الامر بعد مئات الشهداء والاف الجرحى جراء استعمال القوات الحكومية الامنية والفصائل المسلحة الساندة لها قوة سلاح غاشمة ضدهم، الى استقالة الحكومة لتعقبها حكومة مؤقتة بديلة محددة بسنة واحدة مهمتها التهيئة لعقد انتخابات مبكرة من اجل اختيار برلمان وحكومة جديدين.
وهي هذه الانتخابات التي ننتظرها على الابواب في 10/10/2021.
واعتقد اننا سنكون بعدها في احد خيارين شديدي التضاد لمستقبل هذا الوطن، فاما ان تكون الفصل الاخير الاكثر قتامة وظلاما والذي سيسدل بعده الستار على نهاية العراق كوطن وكيان واحد قوي متماسك ويتحول الى اجزاء واقاليم متناثرة، او ان يعود دولةً قوية متماسكة راسخة في بنائها مشعةً في تأثيرها وحضورها ودورها على يد رجال اقوياء امناء مجربين.
وانا ارى واسمع ان العراقيين -هذه المرة- قد عقدوا العزم على خيار حكومة القوة والحزم من اجل ان لا يضيع وطنهم الذي يجب ان يتداركوه بعيدا عن الاهواء القومية والاثنية والصراعات الدينية والطائفية.
وهو ما افرزته اغلب الاستبيانات والاستطلاعات المبكرة والتحقيقات الاعلامية للعوام والنخب من افراد الشعب. حيث بدا ان الجميع عازمون على استعادة دولتهم الموشكة على الانهيار .
ويمكن هنا ان نشير بيقين راسخ ان هذه الرؤية الجمعية الراسخة تتجه ببوصلتها الى فكرة وشعار اعادة الدولة التي يرفعها السيد نوري المالكي وائتلافه في مشروعه السياسي المعلن وبشكل قاطع تحت عنوان (نعيدها دولة).
ولا تفسير لهذا الاجماع او شبه الاجماع الشعبي سوى الثقة بقوة هذا الرجل ومصداقيته في تنفيذ وعوده، اضافة الى سيرة سياسية ومهنية اتسمت بالحزم والثبات والقوة والرفاه الاقتصادي والوفرة المالية.
ان اي استعراض حصيف للاسماء والمشاريع السياسبة المترشحة لهذه الانتخابات سيعطينا نتيجة واحدة من جميع زوايا النظر وهي ان المالكي هو الاقوى والاكثر خبرة وحضورا والاوفر حظا للفوز مقابل ركام طويل عريض من الاسماء الضعيفة التي لا تغني ولا تسمن لمرحلة اعادة بناء الدولة كمشروع سياسي.
واتحدى ان يأتيني احد باسم يمكن مقارنته بهذا الرجل في جميع عناصر وسمات القيادة المطلوبة للخروج بنا كوطن وشعب من خانق وركام السنوات الاخيرة.
لذلك ادعو الجميع - شعباً وسياسيين- موالين ومعارضين، ان يضعوا خلافاتهم الحزبية والعقائدية والمذهبية جانباً وان يتجاوزوا احقادهم الشخصية وصراعاتهم وولاءاتهم الخارجية والداخلية من اجل الهدف السامي المعلن في هذا المشروع كي نعيدها دولة بإذن الله وارادة العراقيين، العراقيين فحسب.
بقلم الاعلامي المستقل
سعد الاوسي