يمر الإنسان بلحظات مختلفة في حياته، بعضها تمر عليه مرور الكرام والبعض الآخر منها تترك في ذاكرته آثاراً لا تمحى على مرور الأزمان ، فيظل الإنسان متمسكاً بها ومحافظاً عليها؛ لأنها بالنسبة له بمثابة كنز لا يستهان به، ولا يسمح بتاتاً بالتفريط فيه مهما كانت الظروف والعقبات التي يمر بها في حياته ،ومعروف أن الإنسان مفطور على اللقاء والاجتماع بالآخرين،وهذه الخُلطة تظهر للناس تصرفات كل إنسان،وبتصرفاته وتحركاته يُعرض عليهم عقله،وبكلامه ولفظاته يُعرض عليهم ما في قلبه.
والناس في هذه الدنيا يتحركون بقلوبهم،وبمشاعرهم،في أي لحظة يقابلون فيها الآخرين،لذلك تصنف شرائح الناس وصفاتهم من خلال مقابلتنا لهم فوراً.
وهذا الحكم وإن كان عجلاً وعاطفياً بعض الشيء إلا أنه ينبئ عن حقائق فعلاً،وعن تصنيف واضح،فمثلاً صاحبا يوسف-عليه الصلاة والسلام-عرضا عليه الرؤى،
ثم قالا في ختامها:"إنا نراك من المحسنين"،فما الذي جعلهما يعتقدان ذلك إلا هيئته ومظهره وتصرفاته الحكيمة،وتأملاته الواسعة.
وغالباً ما يلتقي في هذه اللحظات الثمينة بأناس لهم مكانة رفيعة في قلبه ، وتركوا بصمات واضحة في شخصيته،أشخاص يحتاج إليهم المرء على طول الطريق ليستند إليهم عند وقت الشدائد والمحن،يذكرونه بالله إذا نسي،وينبهونه إذا أخطأ،ويداوون أحزانه وآلامه مثل البلسم الذي يداوي الجروح،فهو يحتاج إليهم في لحظات الحزن الكئيب كحاجة البحر للشمس في لحظات المغيب.
هم أشخاص يتذوق الإنسان معهم طعم المحبة والأخوة في الله،ويعيش معهم وكأنهم كقلب واحد في أجساد متفرقة..أناس يفتخر بصحبته لهم،ويحمد الله دائماً وأبداً أن أكرمه بهم وبآرائهم ومشورتهم التي يتذكرها قبل أي خطوة يخطوها..
وأنا واحدة من الناس،أخالطهم وألتقي بهم،ومن ثم أتعرف إليهم،ولست أخلو من المشاعر التي تحب،والقلب الذي ينبض بالحب.
ومن ذلك نتجت علاقتي بأعز وأغلى صديقاتي؛ علاقة ملؤها المحبة والتفاهم والإخاء،علاقة يتذوق فيها المرء طعم الأخوة الحقيقية في الله عز وجل.
أناس رائعون بكل ما للكلمة من معنى،أحببتهم محبة معاشرة طويلة،وقد أخطئ عليهم، ويخطؤون علي لكن لا ننسى العشرة التي كانت بيننا،حتى لو افترقنا،فإن حسن العهد من الإيمان،كما قال- صلى الله عليه وسلم -.
الذي أود قوله في هذه الأسطر هو أن يرزقني الله عز وجل لقاؤهم عاجلاً غير آجل ، فلقائي بهم يؤنس الروح كثيراً ،ويشرح الصدر ،ويجدد في الحياة طعماً آخر،لا سيما إذا كان الحب الذي بيننا قائماً في الله تعالى فتجد أروع الكلمات تخرج من القلب بلا تكلف،وتزداد المودة بيننا، لكن..الذي ينبغي أن يكون في الخاطر هو أن أي لقاء سينتهي،بفراق في نفس اللحظة،أو بموت أو بسفر،وتبقى الأشواق الحرى؛ التي يطفئ لهيبها الدعاء الصادق في ظهر الغيب،وكذلك تذكر اجتماع الجنة الذي لا فراق فيه،وهو الأمل الذي ننتظره-بعد أن نحقق تقوى الله – فالله يقول في محكم تنزيله: } الأخلاء بعضهم لبعض عدو إلا المتقين{ .. نعم؛ إلا المتقين...الذين انفردوا في الخلوات ، ولكنهم مراقبون ربهم تعالى،يتكلمون في علم ينفهم ،أو نصح يرشدهم ،أو في محبة صادقة لم يدنسها شائبة.
سيفترق الأحبة كلهم،ولكن في الدنيا،وسيعلم يوم القيامة كل محبوب نتيجة حبه،فالصادقون اجتمعا في الله وافترقا عليه،وكما قال الإمام أحمد: "رب إخوة لا نراهم ، أحب إلينا ممن نراهم كل يوم"..
ذلكم هو الحب الذي إن كان،فليخفق القلب كما شاء،ولتذرف الدموع أنهارها وبحارها شوقاً ورجاءً،وليشحب الوجه وليصفر،ولترتعش الأنامل والأطراف، ففي هذا الحب ذكرى الله واليوم الآخر:ـ
نفسي تتوق إلى اللقـــاء فإنه ** يزداد عند لقائكم إيماني
ما قلت زوراً حين قلت أحبكم ** ما الحب إلا الحب في الرحمـن
يفنى ويذهب كل حب كاذب ** وتبدل الأشـــواق بالأضغان
أما إذا كان الوداد لخالـــــــق ** فهناك تحت العرش يلتقيان
في الختام لا أملك إلا أن أدعو لهم بدعوات صادقات في ظهر الغيب- ففيها تعلق بالله تعالى،-حتى نأتي يوم القيامة نجد هذه الدعوات قد بلغت ما لم يكن في الحسبان، والملك يؤمن قائلاً:" و لك بالمثل"..